قصة سليمان بن داود عليهما السلام
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
قََََََصَصُ الأنْبِیَاءِ
للإمام ابن الحافظ ابن كثیر
قصةسلیمان بن داود علیھما السلام
قال الحافظ ابن عساكر: وھو سلیمان بن داود بن أيشا بن عويد بن
عابر بن سلمون بن نخشون بن عمینا دب بن إرم بن حصرون بن فارض بن
يھوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراھیم الربیع نبي الله ابن نبي الله.
جاء في بعض الآثار أنه دخل دمشق. قال ابن ماكولا: فارص بالصاد
المھملة، وذكر نسبه قريباً مما ذكره ابن عساكر.
قال الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَیْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّھَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ
الطَّیْرِ وَأُوتِینَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ ھَذَا لَھُوَ الْفَضْلُ الْمُبِینُ} أي ورثه في النبوة
والملك، ولیس المراد ورثه في المال، لأنه قد كان له بنون غیره، فما كان
لیخص بالمال دونھم، ولأنه قد ثبت في الصحاح من غیر وجه عن جماعة
من الصحابة أن رسول الله صلى الله علیه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا
فھو صدقة" وفي لفظة: "نحن معاشر الأنبیاء لا نورث" فأخبر الصادق
المصدوق أن الأنبیاء لا تورث أموالھم عنھم كما يورث غیرھم، بل تكون
أموالھم صدقة من بعدھم على الفقراء والمحاويج لا يخصون بھا أقربائھم،
لأن الدنیا كانت أھون علیھم وأحقر عندھم من ذلك كما ھي عند الذي
أرسلھم واصطفاھم وفضلھم. وقال: {يَا أَيُّھَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّیْرِ
وَأُوتِینَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} يعني أنه علیه السلام كان يعرف ما يتخاطب به
الطیور بلغاتھا ويعبر للناسعن مقاصدھا وإرادتھا.
وقد قال الحافظ أبو بكر البیھقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا علي
بن حشاد، حدثنا إسماعیل بن قتیبة، حدثنا علي بن قدامة، حدثنا أبو
جعفر الأسواني، يعني محمد بن عبد الرحمن، عن أبي يعقوب العمي،
حدثني أبو مالك. قال مرّ سلیمان بن داود بعصفور يدور حول عصفورة فقال
لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: وما يقول يا نبي الله؟ قال: يخطبھا إلى
نفسه ويقول زوجیني أسكنك أي غرف دمشق شئت! قال سلیمان علیه
السلام لأن غرف دمشق مبنیة بالصخر، لا يقدر أن يسكنھا أحد، ولكن كل
خاطب كذاب.
رواه ابن عساكر عن أبي القاسم زاھر بن طاھر، عن البیھقي به
وكذلك ما عداھا من الحیوانات وسائر صنوف المخلوقات، والدلیل على ھذا
قوله بعد ھذا من الآيات: {وَأُوتِینَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي من كل ما يحتاج
الملك إلیه من العدد والآلات والجنود والجیوش والجماعات من الجن
والإنس والطیور والوحوش والشیاطین السارحات والعلوم والفھوم والتعبیر
عن ضمائر المخلوقات من الناطقات والصامتات ثم قال: {إِنَّ ھَذَا لَھُوَ الْفَضْلُ
الْمُبِینُ} أي من بارئ البريات وخالق الأرض والسماوات كما قال تعالى:
{وَحُشِرَ لِسُلَیْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّیْرِ فَھُمْ يُوزَعُون، حَتَّى إِذَا
أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّھَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَیْمَانُ وَجُنُودُهُ وَھُمْ لا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِھَا
وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ
أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِینَ}.
يخبر تعالى عن عبده ونبیه وابن نبیه سلیمان بن داود علیھما الصلاة
والسلام أنه ركب يوماً في جیشه جمیعه من الجن والإنس والطیر، فالجن
والإنس يسیرون معه والطیر سائرة معه تظله بأجنحتھا من الحر وغیره،
وعلى كل من ھذه الجیوش الثلاثة وزعة، أي نقباء يردون أوله على آخره،
فلا يتقدم أحد عن موضعه الذي يسیر فیه، ولا يتأخر عنه قال الله تعالى:
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّھَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ
لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَیْمَانُ وَجُنُودُهُ وَھُمْ لا يَشْعُرُونَ} فأمرت وحذرت واعتذرت
عن سلیمان وجنوده بعدم الشعور. فقد ذكر وھب أنه مرّ وھو على البساط
بواد بالطائف، وأن ھذه النملة كان اسمھا جرسن، وكانت من قبیلة يقال
لھم بنو الشیصبان، وكانت عرجاء وكانت بقدر الذئب.
وفي ھذا كله نظر، بل في ھذا السیاق دلیل على أنه كان في موكبه
راكباً في خیوله وفرسانه، لا كما زعم بعضھم من أنه كان إذ ذاك على
البساط، لأنه لو كان كذلك لم ينل النمل منه شيء ولا وطئ، لأن البساط
"يكون" علیه جمیع ما يحتاجون إلیه من الجیوش والخیول والجمال والأثقال
والخیام والأنعام والطیر من فوق ذلك كله، كما سنبینه بعد ذلك إن شاء
الله تعالى.
والمقصود أن سلیمان علیه السلام فھم ما خاطبت به تلك النملة
أمتھا من الرأي السديد والأمر الحمید وتبسم من ذلك على وجه
الاستبشار والفرح والسرور بما أطلعه الله علیه دون غیره، ولیسكما يقوله
بعض الجھلة من أن الدواب كانت تنطق قبل سلیمان وتخاطب الناس حتى
أخذ علیھم سلیمان بن داود العھد وألجمھا فلم تتكلم مع الناس بعد ذلك،
فإن ھذا لا يقوله إلا الذين لا يعلمون، ولو كان ھذا ھكذا لم يكن لسلیمان
في فھم مقالھا مزية على غیره، إذ قد كان الناس كلھم يفھمون ذلك، ولو
كان قد أخذ علیھا العھد أن لا تتكلم مع غیره، وكان ھو يفھمھا لم يكن في
ھذا أيضاً فائدة يعول علیھا، ولھذا قال {رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي ألھمني وأرشدني
{أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ
وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِینَ} فطلب من الله أن يقیضه للشكر
على ما أنعم به علیه وعلى ما خصه به من المزية على غیره وأن يیسر
علیه العمل الصالح وأن يحشره إذا توفاه مع عباده الصالحین وقد استجاب
الله تعالى له.
والمراد بوالديه داود علیه السلام وأمه، وكانت من العابدات الصالحات
كما قال سنید بن داود، عن يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبیه، عن
جابر، عن النبي صلى الله علیه وسلم قال: قالت أم سلیمان بن داود: يا
بني لا تكثر النوم باللیل فإن كثرة النوم باللیل تدع العبد فقیراً يوم القیامة.
رواه ابن ماجه عن أربعة من مشايخه عنه به نحو.
وقال عبد الرزاق، عن معمر؛ عن الزھري، أن سلیمان بن داود علیه
السلام خرج ھو وأصحابه يستسقون فرأى نملة قائمة رافعة إحدى
قوائمھا تستسقي، فقال لأصحابه: ارجعوا فقد سقیتم، إن ھذه النملة
استسقت فاستجیب لھا.
"قال ابن عساكر: وقد روي مرفوعاً ولم يذكر فیه سلیمان. ثم ساقه
من طريق محمد بن عزيز، عن سلامة بن روح بن خالد، عن عقیل، عن
ابن شھاب حدثني أبو سلمة، عن أبي ھريرة أنه سمع رسول الله صلى
الله علیه وسلم يقول: خرج نبي من الأنبیاء بالناس يستسقون الله فإذا
ھم بنملة رافعة بعض قوائمھا إلى السماء، فقال النبي: ارجعوا فقد
استجیب لكم من أجل ھذه النملة".
وقال السدي: أصاب الناس قحط على عھد سلیمان علیه السلام،
فأمر الناس فخرجوا فإذا بنملة قائمة على رجلیھا باسطة يديھا وھي
تقول: "اللھم أنا خلق من خلقك، ولا غناء بنا عن فضلك".
قال: فصب الله علیھم المطر.
وقال الله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّیْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْھُدْھُدَ أَمْ كَانَ مِنْ
الْغَائِبِینَ، لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَیَأْتِیَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِینٍ، فَمَكَثَ
غَیْرَ بَعِیدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِینٍ، إِنِّي وَجَدتُّ
امْرَأَةً تَمْلِكُھُمْ وَأُوتِیَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَھَا عَرْشٌ عَظِیم، وَجَدْتُھَا وَقَوْمَھَا
يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَھُمْ الشَّیْطَانُ أَعْمَالَھُمْ فَصَدَّھُمْ عَنْ
السَّبِیلِ فَھُمْ لا يَھْتَدُونَ، يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُون، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ ھُوَ رَبُّ الْعَرْشِالْعَظِیم،
قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِینَ، اذْھَب بِكِتَابِي ھَذَا فَأَلْقِهِ إِلَیْھِمْ
ثُمَّ تَوَلَّ عَنْھُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، قَالَتْ يَا أَيُّھَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ
كَرِيم، إِنَّهُ مِنْ سُلَیْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِیمِ، أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ
وَأْتُونِي مُسْلِمِینَ، قَالَتْ يَا أَيُّھَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً
حَتَّى تَشْھَدُونِي، قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَیْكِ فَانظُرِي
مَاذَا تَأْمُرِين، قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوھَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَھْلِھَا
أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَیْھِمْ بِھَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ،
فَلَمَّا جَاءَ سُلَیْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَیْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ
بِھَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، ارْجِعْ إِلَیْھِمْ، فَلَنَأْتِیَنَّھُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَھُمْ بِھَا وَلَنُخْرِجَنَّھُمْ
مِنْھَا أَذِلَّةً وَھُمْ صَاغِرُونَ}
يذكر تعالى ما كان من أمر سلیمان والھدھد، وذلك أن الطیور كان
على كل صنف منھا مقدمون يقومون بما يطلب منھم ويحضرون عنده
بالنوبة، كما ھي عادة الجنود مع الملوك، وكانت وظیفة الھدھد على ما
ذكره ابن عباس وغیره أنھم كانوا إذا أعوزوا الماء في القفار في حال
الأسفار، يجيء فینظر لھم ھل بھذه البقاع من ماء، وفیه من القوة التي
أودعھا الله تعالى فیه أن ينظر إلى الماء تحت تخوم الأرض، فإذا دلھم علیه
حفروا "عنه" واستنبطوه وأخرجوه واستعملوه لحاجتھم. فلما تطلبه
سلیمان علیه السلام ذات يوم
فقده ولم يجده في موضعه من محل خدمته {مَا لِي لا أَرَى الْھُدْھُدَ أَمْ
كَانَ مِنْ الْغَائِبِینَ} أي ماله مفقود من ھا ھنا أو قد غاب عن بصري فلا أراه
بحضرتي؟ {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} توعده بنوع من العذاب، اختلف
المفسرون فیه، والمقصود حاصل على كل تقدير {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَیَأْتِیَنِي
بِسُلْطَانٍ مُبِینٍ} أي بحجة تنجیه من ھذه الورطة.
قال الله تعالى: {فَمَكَثَ غَیْرَ بَعِیدٍ} أي فغاب الھدھد غیبة لیست
بطويلة ثم قدم منھا {فَقَال} لسلیمان {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي اطلعت
على ما لم تطلع علیه {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِینٍ} أي بخبر صادق {إِنِّي
وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُھُمْ وَأُوتِیَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَھَا عَرْشٌ عَظِیم} يذكر ما كان
علیه ملوك سبأ في بلاد الیمن من المملكة العظیمة والتبابعة المتوجین،
وكان الملك قد آل في ذلك الزمان إلى امرأة منھم ابنة ملكھم لم يخلف
غیرھا فملكوھا علیھم.
وذكره الثعلبي وغیره أن قومھا ملَّكوا علیھم بعد أبیھا رجلاً فعم به
الفساد، فأرسلت إلیه تخطبه فتزوجھا فلما دخلت علیه سقته خمراً ثم
حزت رأسه ونصبته على بابھا، فأقبل الناس علیھا وملكوھا علیھم وھي
بلقیس بنت السیرح وھو الھدھاد. وقیل شراحیل بن ذي جدن بن السیرح
بن الحارث بن قیس بن صیفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان،
وكان أبوھا من أكابر الملوك وكان يأبى أن يتزوج من أھل الیمن، فیقال إنه
تزوج بامرأة من الجن اسمھا ريحانه بنت السكن، فولدت له ھذه المرأة
واسمھا تلقمه ويقال لھا بلقیس.
وقد روى الثعلبي من طريق سعید بن بشیر عن قتادة، عن النضر بن
أنس، عن بشیر بن نھیك، عن أبي ھريرة، عن النبي صلى الله علیه
وسلم أنه قال: كان أحد أبوي بلقیس جنیاً. وھذا حديث غريب وفي سنده
ضعف.
وقال الثعلبي: أخبرني أبو عبد الله بن قبحونه، حدثنا أبو بكر بن حرجه،
حدثنا ابن أبي اللیث، حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية عن إسماعیل بن
مسلم، عن الحسن، عن أبي بكرة، قال: ذكرت بلقیسعند رسول الله
صلى الله علیه وسلم فقال: "لا يفلح قوم ولوا أمرھم امرأة". إسماعیل بن
مسلم ھذا ھو المكي ضعیف.
وقد ثبت في صحیح البخاري من حديث عوف، عن الحسن، عن أبي
بكرة أن رسول الله صلى الله علیه وسلم لما بلغه أن أھل فارسملكوا
علیھم ابنة كسرى قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرھم امرأة".
ورواه الترمذي والنسائي من حديث حمید، عن الحسن عن أبي بكرة،
عن النبي صلى الله علیه وسلم بمثله وقال الترمذي حسن صحیح.
وقوله: {وَأُوتِیَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي مما من شأنه أن تؤتاه الملوك {وَلَھَا
عَرْشٌ عَظِیم} يعني سرير مملكتھا كان مزخرفاً بأنواع الجواھر واللآلئ
والذھب والحلي الباھر.
ثم ذكر كفرھم بالله وعبادتھم الشمس من دون الله وإضلال الشیطان
لھم وصده إياھم عن عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، الذي يخرج
الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما يخفون وما يعلنون، أي يعلم
السرائر والظواھر من المحسوسات والمعنويات {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ ھُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِیم} أي له العرش العظیم الذي لا أعظم منه في المخلوقات.
فعند ذلك بعث معه سلیمان علیه السلام كتابه يتضمن دعوته لھم
إلى طاعة الله وطاعة رسوله والإنابة والإذعان إلى الدخول في الخضوع
لملكه وسلطانه ولھذا قال لھم: {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ} أي لا تستكبروا عن
طاعتي وامتثال أوامري {وَأْتُونِي مُسْلِمِینَ} أي وأقدموا علي سامعین
مطیعین بلا معاودة ولا مراودة، فلما جاءھا الكتاب مع الطیر، ومن ثم اتخذ
الناس البطائق، ولكن أين الثريا من الثرى، تلك البطاقة كانت مع طائر
سامع مطیع فاھم عالم بما يقول ويقال له. فذكر غیر واحد من المفسرين
وغیرھم أن الھدھد حمل الكتاب وجاء إلى قصرھا فألقاه إلیھا وھي في
خلوة لھا ثم وقف ناحیة ينتظر ما يكون من جوابھا عن كتابھا، فجمعت
أمراءھا ووزراءھا وأكابر دولتھا إلى مشورتھا {قَالَتْ يَا أَيُّھَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ
إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيم} ثم قرأت علیھم عنوانه أولاً {إِنَّهُ مِنْ سُلَیْمَانَ} ثم قرأته
{وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِیمِ، أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِینَ} ثم
شاورتھم في أمرھا وما قد حل بھا وتأدبت معھم وخاطبتھم وھم يسمعون
{قَالَتْ يَا أَيُّھَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْھَدُونِي}
تعني ما كنت لأبت أمراً إلا وأنتم حاضرون {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ
شَدِيد} يعنون لنا قوة وقدرة على الجلاد والقتال ومقاومة الأبطال، فأن
أردت منا ذلك فإنا علیه من القادرين "و" مع ھذا {وَالأَمْرُ إِلَیْكِ فَانظُرِي مَاذَا
تَأْمُرِين} فبذلوا لھا السمع والطاعة، وأخبروھا بما عندھم من الطاعة،
وفوضوا إلیھا في ذلك الأمر لترى فیه ما ھو الأرشد لھا ولھم.
فكان رأيھا أتم وأشد من رأيھم، وعلمت أن صاحب ھذا الكتاب لا
يغالب ولا يمانع، ولا يخالف ولا يخادع {، قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً
أَفْسَدُوھَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَھْلِھَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} تقول برأيھا السديد: إن
ھذا الملك لو قد غلب على ھذه المملكة لم يخلص الأمر من بینكم إلا
إلى ولم تكن الحدة والشدة والسطوة البلیغة إلا عليّ {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ
إِلَیْھِمْ بِھَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} أرادت أن تصانع عن نفسھا. وأھل
مملكتھا بھدية ترسلھا، وتحف تبعثھا، ولم تعلم أن سلیمان علیه السلام
لا يقبل منھم والحالة ھذه صرفاً ولا عدلاً، لأنھم كافرون، وھو وجنوده
علیھم قادرون.
"و" لھذا {فَلَمَّا جَاءَ سُلَیْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَیْرٌ
مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِھَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} ھذا وقد كانت تلك الھدايا مشتملة
على أمور عظیمة، ذكره المفسرون.
ثم قال لرسولھا إلیه ووافدھا الذي قدم علیه والناس حاضرون
يسمعون {ارْجِعْ إِلَیْھِمْ، فَلَنَأْتِیَنَّھُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَھُمْ بِھَا وَلَنُخْرِجَنَّھُمْ مِنْھَا
أَذِلَّةً وَھُمْ صَاغِرُونَ} يقول ارجع بھديتك التي قدمت بھا إلى من قد منّ بھا
فإن عندي مما قد أنعم الله عليّ وأسداه إليّ من الأموال والتحف والرجال
ما ھو أضعاف ھذا وخیر من ھذا الذي أنتم تفرحون به وتفخرون على أبناء
جنسكم بسببه {ارْجِعْ إِلَیْھِمْ، فَلَنَأْتِیَنَّھُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَھُمْ بِھَا} أي فلأبعثن
إلیھم بجنود لا يستطیعون دفاعھم ولا نزالھم ولا ممانعتھم ولا قتالھم
ولأخرجنھم من بلدھم وحوزتھم ومعاملتھم ودولتھم أذلة {وَھُمْ صَاغِرُونَ}
علیھم الصغار والعار والدمار.
فلما بلغھم ذلك عن نبي الله لم يكن لھم بد من السمع والطاعة،
فبادروا إلى إجابته في تلك الساعة وأقبلوا صحبة الملكة أجمعین سامعین
مطیعین خاضعین، فلما سمع بقدومھم علیه ووفودھم إلیه قال لمن بین
يديه ممن ھو مسخر له من الجان ما قصه الله عنه في القرآن: {قَالَ يَا أَيُّھَا
المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِینِي بِعَرْشِھَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِینَ، قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ
أَنَا آتِیكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَیْهِ لَقَوِيٌّ أَمِینٌ، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ
عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِیكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَیْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ
قَالَ ھَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِیَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ، قَالَ نَكِّرُوا لَھَا عَرْشَھَا نَنظُرْ أَتَھْتَدِي
أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لا يَھْتَدُونَ، فَلَمَّا جَاءَت قِْیلَ أَھَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ ھُوَ
وَأُوتِینَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِھَا وَكُنَّا مُسْلِمِینَ، وَصَدَّھَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنَّھَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ، قِیلَ لَھَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً
وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَیْھَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَیْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ}
لما طلب سلیمان من الجان أن يحضروا له عرش بلقیس، وھو سرير
مملكتھا التي تجلسعلیه وقت حكمھا، قبل قدومھا علیه {قَالَ عِفْريتٌ
مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِیكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} يعني قبل أن ينقضي
مجلس حكمك، وكان فیما يقال من أول النھار إلى قريب الزوال يتصدى
لمھمات بني إسرائیل وما لھم من الأشغال {وَإِنِّي عَلَیْهِ لَقَوِيٌّ أَمِینٌ} أي
وإني لذو قدرة على إحضاره إلیك والأمانة على ما فیه من الجواھر
النفیسة لديك {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ} المشھور أنه آصف بن
برخینا، وھو ابن خالة سلیمان. وقیل: ھو رجل من مؤمني الجان، كان فیما
يقال يحفظ الاسم الأعظم وقیل رجل من بني إسرائیل من علماءھم،
وقیل: إنه سلیمان، وھذا غريب جداً. وضعفه السھیلي بأنه لا يصح في
سیاق الكلام قال: وقد قیل فیه قول رابع وھو: جبريل {أَنَا آتِیكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ
يَرْتَدَّ إِلَیْكَ طَرْفُكَ} قیل معناه قبل أن تبعث رسولاً إلى أقصى ما ينتھي إلیه
طرفك من الأرض ثم يعود إلیك وقیل قبل أن يصل إلیك أبعد من تراه من
الناس. وقیل قبل أن يكل طرفك إذا أدمت النظر به قبل أن تطبق جفنك.
وقیل قبل أن يرجع إلیك طرفك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته
وھذا أقرب ما قیل.
{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ} أي فلما رأى عرش بلقیسمستقراً عنده
في ھذه المدة القريبة من بلاد الیمن إلى بیت المقدس في طرفة عین
{قَالَ ھَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِیَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} أي ھذا من فضل الله
عليّ وفضله على عبیده لیختبرھم على الشكر أو خلافه {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي إنما يعود نفع ذلك علیه {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}
أي غني عن شكر الشاكرين ولا يتضرر بكفر الكافرين.
ثم أمر سلیمان علیه السلام أن يغیر حلي ھذا العرش وينكر لھا
لیختبر فھمھا وعقلھا ولھذا قال: {نَنظُرْ أَتَھْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لا
يَھْتَدُونَ، فَلَمَّا جَاءَت قِْیلَ أَھَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ ھُوَ} وھذا من فطنتھا
وغزارة فھمھا، لأنھا استبعدت أن يكون عرشھا لأنھا خلفته وراءھا بأرض
الیمن ولم تكن تعلم أن أحداً يقدر على ھذا الصنع العجیب الغريب قال الله
تعالى إخباراً عن سلیمان وقومه: {وَأُوتِینَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِھَا وَكُنَّا مُسْلِمِینَ،
وَصَدَّھَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّھَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي ومنعھا
عبادة الشمس التي كانت تسجد لھا ھي وقومھا من دون الله اتباعاً لدين
آباءھم وأسلافھم لا لدلیل قادھم إلى ذلك ولا حذاھم على ذلك.
وكان سلیمان قد أمر ببناء صرح من زجاج وعمل في ممره ماء، وجعل
علیه سقفاً من زجاج، وجعل فیه من السمك وغیرھا من دواب الماء،
وأمرت بدخول الصرح وسلیمان جالسعلى سريره فیه {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ
لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَیْھَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَیْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ} وقد قیل أن الجن
أرادوا أن يبشعوا منظرھا عند سلیمان وأن تبدي عن ساقیھا لیرى ما
علیھا من الشعر فینفره ذلك منھا، وخشوا أن يتزوجھا لأن أمھا من الجان
فتتسلط علیھم معه وذكر بعضھم أن حافرھا كان كحافر الدابة. وھذا
ضعیف وفي الأول أيضاً نظر. والله أعلم.
إلا أن سلیمان قیل إنه لما أراد إزالته حین عزم على تزوجھا سأل
الإنسعن زواله فذكروا له الموسى، فامتنعت من ذلك فسأل الجان
فصنعوا له النورة ووضعوا له الحمام، فكان أول من دخل الحمام فلما وجد
مسه قال أوه من عذاب أوه أوه قبل أن لا ينفع أوه.
وقد ذكر الثعلبي وغیره أن سلیمان لما تزوجھا أقرھا على مملكة
الیمن وردھا إلیھا، وكان يزورھا في كل شھر مرة، فیقیم عندھا ثلاثة أيام
ثم يعود على البساط، وأمر الجان فبنوا له ثلاثة قصور بالیمن: غمدان
وسالحین وبیتون. فالله أعلم.
وقد روى ابن إسحاق عن بعض أھل العلم عن وھب بن منبه أن
سلیمان لم يتزوجھا بل زوجھا بملك ھمدان، وأقرھا على ملك الیمن،
وسخر زوبعة ملك الیمن فبنى لھا القصور الثلاثة التي ذكرناھا بالیمن
والأول أشھر وأظھر، والله أعلم.
وقال تعالى في سورة ص: {وَوَھَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَیْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ
أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَیْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِیَادُ، فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَیْرِ
عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَت بِْالْحِجَابِ، رُدُّوھَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ
وَالأَعْنَاق، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَیْمَانَ وَأَلْقَیْنَا عَلَى كُرْسِیِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ، قَالَ رَبِّ
اغْفِرْ لِي وَھَب لِْي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَھَّابُ،
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَیْثُ أَصَابَ، وَالشَّیَاطِینَ كُلَّ بَنَّاءٍ
وَغَوَّاص، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِینَ فِي الأَصْفَادِ، ھَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَیْرِ
حِسَابٍ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
يذكر تعالى أنه وھب لداود سلیمان علیھما السلام، ثم أثنى الله
تعالى علیه فقال: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي رجاع مطیع لله. ثم ذكر تعالى
ما كان من أمره في الخیل الصافنات وھي التي تقف على ثلاث وطرف
حافر الرابعة، الجیاد وھي المضمرة السراع.
فقال: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَیْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَت بِْالْحِجَابِ}
يعني الشمس وقیل الخیل على ما سنذكره من القولین. {رُدُّوھَا عَلَيَّ
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاق} قیل مسح عراقیبھا وأعناقھا بالسیوف.
وقیل مسح عنھا العرق لما أجراھا وسابق بینھا بین يديه على القول
الآخر.
والذي علیه أكثر السلف الأول، فقالوا اشتغل بعرض تلك الخیول حتى
خرج وقت العصر وغربت الشمس. روى ھذا عن عليّ بن أبي طالب
وغیره. والذي يقطع به أنه لم يترك الصلاة عمداً من غیر عذر، اللھم إلا أن
يقال إنه كان سائغاً في شريعتھم فأخر الصلاة لأجل أسباب الجھاد وعرض
الخیل من ذلك.
وقد ادعى طائفة من العلماء في تأخیر النبي صلى الله علیه وسلم
صلاة العصر يوم الخندق إن ھذا كان مشروعاً إذ ذاك حتى نسخ بصلاة
الخوف، قاله الشافعي وغیره. وقال مكحول والأوزاعي: بل ھو حكم محكم
الى الیوم أنه يجوز تأخیرھا بعذر القتال الشديد. كما ذكرنا تقرير ذلك في
سورة النساء عند صلاة الخوف. وقال آخرون: بل كان تأخیر النبي صلى الله
علیه وسلم صلاة العصر يوم الخندق نسیاناً، وعلى ھذا فیحمل فعل
سلیمان علیة السلام على ھذا والله أعلم. وأما من قال: الضمیر في
قوله: {حَتَّى تَوَارَت بِْالْحِجَابِ} عائد على الخیل، وأنه لم تنتھي وقت صلاة
وأن المراد بقوله: {رُدُّوھَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاق} يعني
مسح العرق عن عراقیبھا وأعناقھا، فھذا القول اختاره ابن جرير ورواه
الوالبي عن ابن عباس في مسح العرق. ووجه ھذا القول ابن جرير بأنه ما
كان لیعذب الحیوان بالعرقبة ويھلك مالا بلا سبب ولا ذنب لھا. وھذا الذي
قاله فیه نظر لأنه قد يكون ھذا سائغاً في ملتھم وقد ذھب بعض علمائنا
الى أنه إذا خاف المسلمون أن يضفر الكفار على شيء من الحیوانات من
أغنام ونحوھا جاز ذبحھا وإھلاكھا لئلا يتقووا بھا. وعلیه حُمل صنیع جعفر
بن أبي طالب يوم عقر فرسه بمؤتة. وقد قیل إنھا كانت خیلاً عظیمة. قیل
كانت عشرة آلاف فرس. وقیل كانت عشرين ألف فرس. وقیل كان فیھا
عشرون فرساً من ذوات الأجنحة.
وقد روى أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا سعید بن
أبي مريم، أنبأنا يحیى بن أيوب، حدثني عمارة بن غزية، أن محمد بن
إبراھیم حدثه عن محمد بن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة
قالت: قدم رسول الله صلى الله علیه وسلم من غزوة تبوك أو خیبر وفي
سھوتھا ستر، فھبت الريح فكشفت ناحیة الستر عن بنات لعائشة لعب
فقال: ما ھذا يا عائشة؟ فقالت: بناتي. ورأى بینھن فرساً له جناحان من
رقاع. فقال: ما ھذا الذي أرى وسطھن؟ قالت: فرس. قال: وما الذي علیه
ھذا؟ قالت: جناحان. قال: فرس له جناحان! قالت: أما سمعت أن
لسلیمان خیلاً لھا أجنحة. قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه صلى الله علیه
وسلم.
قال بعض العلماء لما ترك الخیل لله عوضه الله عنھا بما ھو خیر له
منھا، وھو الريح التي كان غدوھا شھر ورواحھا شھر، كما سیأتي الكلام
علیھا.
كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعیل، حدثنا سلیمان بن المغیرة، عن
حمید بن ھلال، عن أبي قتادة وأبي الدھماء، وكانا يكثران السفر نحو
البیت قالا: أتینا على رجل من أھل البادية فقال البدوي: أخذ بیدي رسول
الله صلى الله علیه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل وقال "إنك
لا تدع شیئاً اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خیراً منه".
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَیْمَانَ وَأَلْقَیْنَا عَلَى كُرْسِیِّهِ جَسَداً ثُمَّ
أَنَابَ}.
ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم وغیرھما من المفسرين ھا ھنا آثاراً
كثیرة عن جماعة من السلف. وأكثرھا أو كلھا متلقاة من الإسرائیلیات،
وفي كثیر منھا نكارة شديدة، وقد نبھنا على ذلك في كتابنا التفسیر
واقتصرنا ھا ھنا على مجرد التلاوة.
ومضمون ما ذكروه أن سلیمان علیه السلام غاب عن سريره أربعین
يوماً ثم عاد إلیه، ولما عاد أمر ببناء بیت المقدس، فبناه بناء محكماً، وقد
قدمنا أنه جدده، وأن أول من جعله مسجداً إسرائیل علیه السلام، كما
ذكرنا ذلك عند قول أبي ذر: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال:
المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: مسجد بیت المقدس، قلت: كم
بینھما. قال: أربعون سنة.
ومعلوم أن بین إبراھیم الذي بنى المسجد الحرام وبین سلیمان بن
داود علیھما السلام أزيد من ألف سنة دع أربعین سنة، وكان سؤاله الملك
الذي لا ينبغي لأحد من بعده بعد إكماله البیت المقدس؟ قال الإمام أحمد
والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم بأسانیدھم عن عبد
الله بن فیروز الديلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله
صلى الله علیه وسلم : إن سلیمان لما بنى بیت المقدس سأل ربه عز
وجل خلالاً ثلاثاً، فأعطاه اثنتین، ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة: سأله
حكماً يصادف حكمه.
فأعطاه إياه، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله
أيما رجل خرج من بیته لا يريد إلا الصلاة في ھذا المسجد خرج من
خطیئته مثل يوم ولدته أمه. فنحن نرجو أن يكون الله قد أعطانا إياھا.
فأما الحكم الذي يوافق حكم الله تعالى فقد أثنى الله تعالى علیه
وعلى أبیه في قوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَیْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ
فِیهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِھِمْ شَاھِدِينَ، فَفَھَّمْنَاھَا سُلَیْمَانَ وَكُلّاً آتَیْنَا حُكْماً
وَعِلْماً} وقد ذكر شريح القاضي وغیر واحد من السلف أن ھؤلاء القوم كان
لھم كرم فنفشت فیه غنم قوم آخرين، أي رعته باللیل، فأكلت شجره
بالكلیة، فتحاكموا إلى داود علیه السلام فحكم لأصحاب الكرم بقیمته.
فلما خرجوا على سلیمان قال: بم حكم لكم نبي الله؟ فقالوا: بكذا وكذا
فقال: أما لو كنت أنا لما حكمت إلا بتسلیم الغنم إلى أصحاب الكرم
فیستغلونھا نتاجاً ودراً، حتى يصلح أصحاب الغنم كرم أولئك ويردوه إلى ما
كان علیه، ثم يتسلموا غنمھم، فبلغ داود علیه السلام ذلك فحكم به.
وقريب من ھذا ما ثبت في الصحیحین من حديث أبي الزناد، عن
الأعرج، عن أبي ھريرة قال: قال رسول الله صلى الله علیه وسلم : "بینما
امرأتان معھما ابناھما، إذ عدا الذئب فأخذ ابن إحداھما، فتنازعتا في
الآخر، فقالت الكبرى: إنما ذھب بابنك، وقالت الصغرى: بل إنما ذھب
بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فحكم به للكبرى، فخرجتا على سلیمان فقال:
ائتوني بالسكین أشقه نصفین لكل واحدة منكما نصفه. فقالت الصغرى:
يرحمك الله ھو ابنھا. فقضى به لھا".
ولعل كلاً من الحكمین كان سائغاً في شريعتھم، ولكن ما قاله
سلیمان أرجح، ولھذا أثنى الله علیه بما ألھمه إياه، ومدح بعد ذلك أباه
فقال: {وَكُلّاً آتَیْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّیْرَ وَكُنَّا
فَاعِلِینَ، وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَھَلْ أَنْتُمْ
شَاكِرُونَ}.
ثم قال: {وَلِسُلَیْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أي وسخرنا لسلیمان الريح عاصفة
{تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِیھَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِینَ، وَمِنْ
الشَّیَاطِینِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَھُمْ حَافِظِینَ}.
وقال في سورة ص: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَیْثُ أَصَاب،
كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِینَ فِي الأَصْفَادِ، ھَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ
بِغَیْرِ حِسَابٍ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
لمّا ترك الخیل ابتغاء وجه الله عوضه الله منھا بالريح التي ھي أسرع
سیراً وأقوى وأعظم ولا كلفة علیه لھا {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَیْثُ أَصَاب} أي
حیث أراد من أي البلاد، كان له بساط مركب من أخشاب، بحیث إنه سمع
جمیع ما يحتاج إلیه من الدور المبنیة والقصور والخیام والأمتعة والخیول
والجمال والأثقال والرجال من الإنسوالجان، وغیر ذلك من الحیوانات
والطیور فإذا أراد سفراً أو مستنزھاً، أو قتال ملك أو أعداء من أي بلاد الله
شاء. فإذا حمل ھذه الأمور المذكورة على البساط أمر الريح فدخلت تحته
فرفعته فإذا استقل بین السماء والأرض أمر الرخاء فسارت به، فإن أراد
أسرع من ذلك أمر العاصفة فحملته أسرع ما يكون، فوضعته في أي مكان
شاء، بحیث إنه كان يرتحل في أول النھار من بیت المقدس، فتغدو به
الريح فتضعه بإصطخر مسیرة شھر، فیقیم ھناك إلى آخر النھار، ثم يروح
من آخره فترده إلى بیت المقدس.
كما قال تعالى: {وَلِسُلَیْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّھَا شَھْرٌ وَرَوَاحُھَا شَھْرٌ وَأَسَلْنَا
لَهُ عَیْنَ الْقِطْرِ وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَیْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغ مِْنْھُمْ عَنْ
أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِیرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِیلَ
وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِیَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِیلٌ مِنْ عِبَادِي
الشَّكُورُ}.
قال الحسن البصري: كان يغدو من دمشق فینزل بإصطخر فیتغدى
بھا، ويذھب رائحاً منھا، فیبیت بكابل، وبین دمشق وبین اصطخر مسیرة
شھر، وبین اصطخر وكابل مسیرة شھر.
قلت: قد ذكر المتكلمون على العمران والبلدان أن اصطخر بنتھا الجان
لسلیمان، وكان فیھا قرار مملكة الترك قديماً، وكذلك غیرھا من بلدان
شتى، كتدمر وبیت المقدس وباب جیرون وباب البريد اللذان بدمشق على
أحد الأقوال.
وأما القطر فقال ابن عباس ومجاھد وعكرمة وقتادة وغیر واحد: ھو
النحاس. قال قتادة: وكانت بالیمن أنبعھا الله له. قال السدي: ثلاثة أيام
فقط أخذ منھا جمیع ما يحتاج إلیه للبنايات وغیرھا.
وقوله: {وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَیْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغ مِْنْھُمْ عَنْ
أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِیرِ}. أي وسخر الله له من الجن عمالاً يعملون له
ما يشاء، لا يفترون ولا يخرجون عن طاعته، ومن خرج منھم عن الأمر عذبه
ونكل به {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} وھي الأماكن الحسنة وصدور
المجالس{وَتَمَاثِیل} وھي الصور في الجدران، وكان ھذا سائغاً في
شريعتھم وملتھم {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} قال ابن عباس: الجفنة كالجوبة من
الأرض. وعنه كالحیاض. وكذا قال مجاھد والحسن وقتادة والضحاك
وغیرھم. وعلى ھذه الرواية يكون الجواب جمع جابیة وھي الحوض الذي
يجبى فیه الماء، قال الأعمش:
تروح على آل المحلق جفنة *** كجابیة الشیخ العراقي تفھق
وأما القدور الراسیات فقال عكرمة: أثافیھا منھا، يعني أنھن ثوابت لا
يزلن عن أماكنھن، وھكذا قال مجاھد وغیر واحد.
ولما كان ھذا بصدد إطعام الطعام والإحسان إلى الخلق من إنسان
وحیوان قال تعالى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِیلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}.
وقال تعالى: {وَالشَّیَاطِینَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِینَ فِي
الأَصْفَادِ} يعني أن منھم من قد سخره الله في البناء ومنھم من يأمره
بالغوص في الماء لاستخراج ما ھنالك من الجواھر واللآلئ وغیر ذلك مما
لا يوجد إلا ھنالك. وقوله: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِینَ فِي الأَصْفَادِ} أي قد عصوا
فقیدوا مقرنین اثنین اثنین في الأصفاد وھي القیود، وھذا كله من جملة
ما ھیأه الله وسخر له من الأشیاء التي ھي من تمام الملك الذي لا
ينبغي لأحد من بعده، ولم يكن أيضاً لمن كان قبله.
وقد قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا
شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي ھريرة عن النبي صلى الله علیه
وسلم قال: "إن عفريتاً من الجن تفلت عليّ البارحة لیقطع عليّ صلاتي،
فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري
المسجد حتى تنظروا إلیه كلكم، فذكرت دعوة أخي سلیمان: {قَالَ رَبِّ
اغْفِرْ لِي وَھَب لِْي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فرددته خاسئاً.
وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة.
وقال مسلم: حدثنا محمد بن سلمة المرادي، حدثنا عبد الله بن وھب
عن معاوية بن صالح، حدثني ربیعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن
أبي الدرداء قال: قام رسول الله صلى الله علیه وسلم يصلي فسمعناه
يقول: أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله ثلاثاً، وبسط يده كأنه يتناول شیئاً،
فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله: قد سمعناك تقول في الصلاة شیئاً
لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك قال: "إن عدو الله إبلیس
جاء بشھاب من نار لیجعله في وجھي فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات.
ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه،
والله لولا دعوة أخینا سلیمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أھل المدينة".
وكذا رواه النسائي عن محمد بن سلمة به.
وقال أحمد: حدثنا أبو أحمد، حدثنا مرة بن معبد، حدثنا أبو عبید حاجب
سلیمان، قال: رأيت عطاء بن يزيد اللیثي قائماً يصلي، فذھبت أمرّ بین
يديه فردني ثم قال: حدثني أبو سعید الخدري أن رسول الله صلى الله
علیه وسلم قام فصلى صلاة الصبح وھو خلفه فقرأ فالتبست علیه القراءة.
فلما فرغ من صلاته قال: "لو رأيتموني وإبلیس فأھويت بیدي فما زلت
أخنقه حتى وجدت برد لعابه بین إصبعي ھاتین الإبھام والتي تلیھا، ولولا
دعوة أخي سلیمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به
صبیان المدينة، فمن استطاع منكم ألا يحول بینه وبین القبلة أحدٌ
فلیفعل".
روى أبو داود منه "فمن استطاع" إلى آخره عن أحمد بن سريج عن
أحمد الزبیري به.
وقد ذكر غیر واحد من السلف أنه كانت لسلیمان من النساء ألف امرأة
سبعمائة بمھور وثلاثمائة سراري. وقیل بالعكسثلاثمائة حرائر وسبعمائة
من الإماء، وقد كان يطیق من التمتع بالنساء أمراً عظیماً جداً.
قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا مغیرة بن عبد الرحمن عن
أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي ھريرة، عن النبي صلى الله علیه وسلم
قال: قال سلیمان بن داود: لأطوفن اللیلة على سبعین امرأة تحمل كل
امرأة فارساً يجاھد في سبیل الله. فقال له صاحبه: إن شاء الله. فلم يقل،
فلم تحمل شیئاً إلا واحداً ساقطاً أحد شقیه. فقال النبي صلى الله علیه
وسلم: "لو قالھا لجاھدوا في سبیل الله". وقال شعیب وابن أبي الزناد:
تسعین وھو أصح. تفرد به البخاري من ھذا الوجه.
وقال أبو يعلى: حدثنا زھیر، حدثنا يزيد، أنبأنا ھشام بن حسان عن
محمد، عن أبي ھريرة، قال: قال رسول الله صلى الله علیه وسلم : قال
سلیمان بن داود: لأطوفن اللیلة على مائة امرأة كل امرأة منھن تلد غلاماً
يضرب بالسیف في سبیل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف تلك اللیلة
على مائة امرأة فلم تلد منھن امرأة، إلا امرأة ولدت نصف إنسان، فقال
رسول الله صلى الله علیه وسلم : "لو قال: إن شاء الله لولدت كل امرأة
منھن غلاماً يضرب بالسیف في سبیل الله عز وجل".
إسناده على شرط الصحیح ولم يخرجوه من ھذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا ھشیم، حدثنا ھشام، عن ابن سیرين، عن
أبي ھريرة قال: قال سلیمان بن داود: لأطوفن اللیلة على مائة امرأة تلد
كل واحدة منھن غلاماً يقاتل في سبیل الله، ولم يستثن. فما ولدت إلا
واحدة منھن بشق إنسان. قال: قال رسول الله صلى الله علیه وسلم "لو
استثنى لولد له مائة غلام يقاتل في سبیل الله عز وجل". تفرد به أحمد
أيضاً.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن ابن طاووس، عن
أبیه، عن أبي ھريرة قال: قال رسول الله صلى الله علیه وسلم : قال
سلیمان بن داود، لأطوفن اللیلة بمائة امرأة تلد كل امرأة منھن غلاماً
يقاتل في سبیل الله قال: نسي أن يقول: إن شاء الله، فأطاف بھن قال:
فلم تلد منھن امرأة إلا واحدة نصف إنسان. فقال رسول الله صلى الله علیه
وسلم : "لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته".
وھكذا أخرجاه في الصحیحین من حديث عبد الرزاق به مثله. قال
إسحاق بن بشر: أنبأنا مقاتل، عن أبي الزناد، وابن أبي الزناد عن أبیه،
عن عبد الرحمن، عن أبي ھريرة، أن سلیمان بن داود كان له أربعمائة
امرأة وستمائة سرية فقال يوماً: لأطوفن اللیلة على ألف امرأة، فتحمل كل
واحدة منھن بفارس يجاھد في سبیل الله. ولم يستثن فطاف علیھن، فلم
تحمل واحدة منھن، إلا امرأة واحدة منھن جاءت بشق إنسان. فقال النبي
صلى الله علیه وسلم : "والذي نفسي بیده لو استثنى فقال إن شاء الله
لولد له ما قال فرسان، ولجاھدوا في سبیل الله عز وجل".
وھذا إسناد ضعیف لحال إسحاق بن بشر، فإنه منكر الحديث ولا
سیما وقد خالف الروايات الصحاح.
وقد كان له علیه السلام من أمور الملك واتساع الدولة كثرة الجنود
وتنوعھا ما لم يكن لأحد قبله، ولا يعطیه الله أحداً بعده، كما قال: {وَأُوتِینَا
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَھَب لِْي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَھَّابُ} وقد أعطاه الله ذلك بنص الصادق المصدوق.
ولما ذكر تعالى ما أنعم به علیه وأسداه من النعم الكاملة العظیمة
إلیه قال: {ھَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَیْرِ حِسَابٍ} أي أعط من شئت
واحرم من شئت، فلا حساب علیك، أي: تصرف في المال كیف شئت، فإن
الله قد سوغ لك ما تفعله من ذلك، ولا يحاسبك على ذلك، وھذا شأن
النبي الملك، بخلاف العبد الرسول، فإن من شأنه أن لا يعطي أحداً إلا
بإذن الله له في ذلك.
وقد خُیر نبینا محمد صلوات الله وسلامه علیه بین ھذين المقامین،
فاختار أن يكون عبداً رسولاً. وفي بعض الروايات أنه استشار جبريل في
ذلك فأشار إلیه أن تواضع. فاختار أن يكون عبداً رسولاً، صلوات الله وسلامه
علیه، وقد جعل الله الخلافة والملك من بعده في أمته إلى يوم القیامة،
فلا تزال طائفة من أمته ظاھرين حتى تقوم الساعة. فلله الحمد والمنة.
ولما ذكر تعالى ما وھبه لنبیه سلیمان علیه السلام من خیر الدنیا،
نبه لما أعده له في الآخرة من الثواب الجزيل والأجر الجمیل والقربة التي
تقربه إلیه والفوز العظیم والإكرام بین يديه، وذلك يوم المعاد والحساب
حیث يقول تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
عابر بن سلمون بن نخشون بن عمینا دب بن إرم بن حصرون بن فارض بن
يھوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراھیم الربیع نبي الله ابن نبي الله.
جاء في بعض الآثار أنه دخل دمشق. قال ابن ماكولا: فارص بالصاد
المھملة، وذكر نسبه قريباً مما ذكره ابن عساكر.
قال الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَیْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّھَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ
الطَّیْرِ وَأُوتِینَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ ھَذَا لَھُوَ الْفَضْلُ الْمُبِینُ} أي ورثه في النبوة
والملك، ولیس المراد ورثه في المال، لأنه قد كان له بنون غیره، فما كان
لیخص بالمال دونھم، ولأنه قد ثبت في الصحاح من غیر وجه عن جماعة
من الصحابة أن رسول الله صلى الله علیه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا
فھو صدقة" وفي لفظة: "نحن معاشر الأنبیاء لا نورث" فأخبر الصادق
المصدوق أن الأنبیاء لا تورث أموالھم عنھم كما يورث غیرھم، بل تكون
أموالھم صدقة من بعدھم على الفقراء والمحاويج لا يخصون بھا أقربائھم،
لأن الدنیا كانت أھون علیھم وأحقر عندھم من ذلك كما ھي عند الذي
أرسلھم واصطفاھم وفضلھم. وقال: {يَا أَيُّھَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّیْرِ
وَأُوتِینَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} يعني أنه علیه السلام كان يعرف ما يتخاطب به
الطیور بلغاتھا ويعبر للناسعن مقاصدھا وإرادتھا.
وقد قال الحافظ أبو بكر البیھقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا علي
بن حشاد، حدثنا إسماعیل بن قتیبة، حدثنا علي بن قدامة، حدثنا أبو
جعفر الأسواني، يعني محمد بن عبد الرحمن، عن أبي يعقوب العمي،
حدثني أبو مالك. قال مرّ سلیمان بن داود بعصفور يدور حول عصفورة فقال
لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: وما يقول يا نبي الله؟ قال: يخطبھا إلى
نفسه ويقول زوجیني أسكنك أي غرف دمشق شئت! قال سلیمان علیه
السلام لأن غرف دمشق مبنیة بالصخر، لا يقدر أن يسكنھا أحد، ولكن كل
خاطب كذاب.
رواه ابن عساكر عن أبي القاسم زاھر بن طاھر، عن البیھقي به
وكذلك ما عداھا من الحیوانات وسائر صنوف المخلوقات، والدلیل على ھذا
قوله بعد ھذا من الآيات: {وَأُوتِینَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي من كل ما يحتاج
الملك إلیه من العدد والآلات والجنود والجیوش والجماعات من الجن
والإنس والطیور والوحوش والشیاطین السارحات والعلوم والفھوم والتعبیر
عن ضمائر المخلوقات من الناطقات والصامتات ثم قال: {إِنَّ ھَذَا لَھُوَ الْفَضْلُ
الْمُبِینُ} أي من بارئ البريات وخالق الأرض والسماوات كما قال تعالى:
{وَحُشِرَ لِسُلَیْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّیْرِ فَھُمْ يُوزَعُون، حَتَّى إِذَا
أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّھَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَیْمَانُ وَجُنُودُهُ وَھُمْ لا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِھَا
وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ
أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِینَ}.
يخبر تعالى عن عبده ونبیه وابن نبیه سلیمان بن داود علیھما الصلاة
والسلام أنه ركب يوماً في جیشه جمیعه من الجن والإنس والطیر، فالجن
والإنس يسیرون معه والطیر سائرة معه تظله بأجنحتھا من الحر وغیره،
وعلى كل من ھذه الجیوش الثلاثة وزعة، أي نقباء يردون أوله على آخره،
فلا يتقدم أحد عن موضعه الذي يسیر فیه، ولا يتأخر عنه قال الله تعالى:
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّھَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ
لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَیْمَانُ وَجُنُودُهُ وَھُمْ لا يَشْعُرُونَ} فأمرت وحذرت واعتذرت
عن سلیمان وجنوده بعدم الشعور. فقد ذكر وھب أنه مرّ وھو على البساط
بواد بالطائف، وأن ھذه النملة كان اسمھا جرسن، وكانت من قبیلة يقال
لھم بنو الشیصبان، وكانت عرجاء وكانت بقدر الذئب.
وفي ھذا كله نظر، بل في ھذا السیاق دلیل على أنه كان في موكبه
راكباً في خیوله وفرسانه، لا كما زعم بعضھم من أنه كان إذ ذاك على
البساط، لأنه لو كان كذلك لم ينل النمل منه شيء ولا وطئ، لأن البساط
"يكون" علیه جمیع ما يحتاجون إلیه من الجیوش والخیول والجمال والأثقال
والخیام والأنعام والطیر من فوق ذلك كله، كما سنبینه بعد ذلك إن شاء
الله تعالى.
والمقصود أن سلیمان علیه السلام فھم ما خاطبت به تلك النملة
أمتھا من الرأي السديد والأمر الحمید وتبسم من ذلك على وجه
الاستبشار والفرح والسرور بما أطلعه الله علیه دون غیره، ولیسكما يقوله
بعض الجھلة من أن الدواب كانت تنطق قبل سلیمان وتخاطب الناس حتى
أخذ علیھم سلیمان بن داود العھد وألجمھا فلم تتكلم مع الناس بعد ذلك،
فإن ھذا لا يقوله إلا الذين لا يعلمون، ولو كان ھذا ھكذا لم يكن لسلیمان
في فھم مقالھا مزية على غیره، إذ قد كان الناس كلھم يفھمون ذلك، ولو
كان قد أخذ علیھا العھد أن لا تتكلم مع غیره، وكان ھو يفھمھا لم يكن في
ھذا أيضاً فائدة يعول علیھا، ولھذا قال {رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي ألھمني وأرشدني
{أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ
وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِینَ} فطلب من الله أن يقیضه للشكر
على ما أنعم به علیه وعلى ما خصه به من المزية على غیره وأن يیسر
علیه العمل الصالح وأن يحشره إذا توفاه مع عباده الصالحین وقد استجاب
الله تعالى له.
والمراد بوالديه داود علیه السلام وأمه، وكانت من العابدات الصالحات
كما قال سنید بن داود، عن يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبیه، عن
جابر، عن النبي صلى الله علیه وسلم قال: قالت أم سلیمان بن داود: يا
بني لا تكثر النوم باللیل فإن كثرة النوم باللیل تدع العبد فقیراً يوم القیامة.
رواه ابن ماجه عن أربعة من مشايخه عنه به نحو.
وقال عبد الرزاق، عن معمر؛ عن الزھري، أن سلیمان بن داود علیه
السلام خرج ھو وأصحابه يستسقون فرأى نملة قائمة رافعة إحدى
قوائمھا تستسقي، فقال لأصحابه: ارجعوا فقد سقیتم، إن ھذه النملة
استسقت فاستجیب لھا.
"قال ابن عساكر: وقد روي مرفوعاً ولم يذكر فیه سلیمان. ثم ساقه
من طريق محمد بن عزيز، عن سلامة بن روح بن خالد، عن عقیل، عن
ابن شھاب حدثني أبو سلمة، عن أبي ھريرة أنه سمع رسول الله صلى
الله علیه وسلم يقول: خرج نبي من الأنبیاء بالناس يستسقون الله فإذا
ھم بنملة رافعة بعض قوائمھا إلى السماء، فقال النبي: ارجعوا فقد
استجیب لكم من أجل ھذه النملة".
وقال السدي: أصاب الناس قحط على عھد سلیمان علیه السلام،
فأمر الناس فخرجوا فإذا بنملة قائمة على رجلیھا باسطة يديھا وھي
تقول: "اللھم أنا خلق من خلقك، ولا غناء بنا عن فضلك".
قال: فصب الله علیھم المطر.
وقال الله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّیْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْھُدْھُدَ أَمْ كَانَ مِنْ
الْغَائِبِینَ، لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَیَأْتِیَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِینٍ، فَمَكَثَ
غَیْرَ بَعِیدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِینٍ، إِنِّي وَجَدتُّ
امْرَأَةً تَمْلِكُھُمْ وَأُوتِیَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَھَا عَرْشٌ عَظِیم، وَجَدْتُھَا وَقَوْمَھَا
يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَھُمْ الشَّیْطَانُ أَعْمَالَھُمْ فَصَدَّھُمْ عَنْ
السَّبِیلِ فَھُمْ لا يَھْتَدُونَ، يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُون، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ ھُوَ رَبُّ الْعَرْشِالْعَظِیم،
قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِینَ، اذْھَب بِكِتَابِي ھَذَا فَأَلْقِهِ إِلَیْھِمْ
ثُمَّ تَوَلَّ عَنْھُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، قَالَتْ يَا أَيُّھَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ
كَرِيم، إِنَّهُ مِنْ سُلَیْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِیمِ، أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ
وَأْتُونِي مُسْلِمِینَ، قَالَتْ يَا أَيُّھَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً
حَتَّى تَشْھَدُونِي، قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَیْكِ فَانظُرِي
مَاذَا تَأْمُرِين، قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوھَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَھْلِھَا
أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَیْھِمْ بِھَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ،
فَلَمَّا جَاءَ سُلَیْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَیْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ
بِھَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، ارْجِعْ إِلَیْھِمْ، فَلَنَأْتِیَنَّھُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَھُمْ بِھَا وَلَنُخْرِجَنَّھُمْ
مِنْھَا أَذِلَّةً وَھُمْ صَاغِرُونَ}
يذكر تعالى ما كان من أمر سلیمان والھدھد، وذلك أن الطیور كان
على كل صنف منھا مقدمون يقومون بما يطلب منھم ويحضرون عنده
بالنوبة، كما ھي عادة الجنود مع الملوك، وكانت وظیفة الھدھد على ما
ذكره ابن عباس وغیره أنھم كانوا إذا أعوزوا الماء في القفار في حال
الأسفار، يجيء فینظر لھم ھل بھذه البقاع من ماء، وفیه من القوة التي
أودعھا الله تعالى فیه أن ينظر إلى الماء تحت تخوم الأرض، فإذا دلھم علیه
حفروا "عنه" واستنبطوه وأخرجوه واستعملوه لحاجتھم. فلما تطلبه
سلیمان علیه السلام ذات يوم
فقده ولم يجده في موضعه من محل خدمته {مَا لِي لا أَرَى الْھُدْھُدَ أَمْ
كَانَ مِنْ الْغَائِبِینَ} أي ماله مفقود من ھا ھنا أو قد غاب عن بصري فلا أراه
بحضرتي؟ {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} توعده بنوع من العذاب، اختلف
المفسرون فیه، والمقصود حاصل على كل تقدير {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَیَأْتِیَنِي
بِسُلْطَانٍ مُبِینٍ} أي بحجة تنجیه من ھذه الورطة.
قال الله تعالى: {فَمَكَثَ غَیْرَ بَعِیدٍ} أي فغاب الھدھد غیبة لیست
بطويلة ثم قدم منھا {فَقَال} لسلیمان {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي اطلعت
على ما لم تطلع علیه {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِینٍ} أي بخبر صادق {إِنِّي
وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُھُمْ وَأُوتِیَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَھَا عَرْشٌ عَظِیم} يذكر ما كان
علیه ملوك سبأ في بلاد الیمن من المملكة العظیمة والتبابعة المتوجین،
وكان الملك قد آل في ذلك الزمان إلى امرأة منھم ابنة ملكھم لم يخلف
غیرھا فملكوھا علیھم.
وذكره الثعلبي وغیره أن قومھا ملَّكوا علیھم بعد أبیھا رجلاً فعم به
الفساد، فأرسلت إلیه تخطبه فتزوجھا فلما دخلت علیه سقته خمراً ثم
حزت رأسه ونصبته على بابھا، فأقبل الناس علیھا وملكوھا علیھم وھي
بلقیس بنت السیرح وھو الھدھاد. وقیل شراحیل بن ذي جدن بن السیرح
بن الحارث بن قیس بن صیفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان،
وكان أبوھا من أكابر الملوك وكان يأبى أن يتزوج من أھل الیمن، فیقال إنه
تزوج بامرأة من الجن اسمھا ريحانه بنت السكن، فولدت له ھذه المرأة
واسمھا تلقمه ويقال لھا بلقیس.
وقد روى الثعلبي من طريق سعید بن بشیر عن قتادة، عن النضر بن
أنس، عن بشیر بن نھیك، عن أبي ھريرة، عن النبي صلى الله علیه
وسلم أنه قال: كان أحد أبوي بلقیس جنیاً. وھذا حديث غريب وفي سنده
ضعف.
وقال الثعلبي: أخبرني أبو عبد الله بن قبحونه، حدثنا أبو بكر بن حرجه،
حدثنا ابن أبي اللیث، حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية عن إسماعیل بن
مسلم، عن الحسن، عن أبي بكرة، قال: ذكرت بلقیسعند رسول الله
صلى الله علیه وسلم فقال: "لا يفلح قوم ولوا أمرھم امرأة". إسماعیل بن
مسلم ھذا ھو المكي ضعیف.
وقد ثبت في صحیح البخاري من حديث عوف، عن الحسن، عن أبي
بكرة أن رسول الله صلى الله علیه وسلم لما بلغه أن أھل فارسملكوا
علیھم ابنة كسرى قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرھم امرأة".
ورواه الترمذي والنسائي من حديث حمید، عن الحسن عن أبي بكرة،
عن النبي صلى الله علیه وسلم بمثله وقال الترمذي حسن صحیح.
وقوله: {وَأُوتِیَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي مما من شأنه أن تؤتاه الملوك {وَلَھَا
عَرْشٌ عَظِیم} يعني سرير مملكتھا كان مزخرفاً بأنواع الجواھر واللآلئ
والذھب والحلي الباھر.
ثم ذكر كفرھم بالله وعبادتھم الشمس من دون الله وإضلال الشیطان
لھم وصده إياھم عن عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، الذي يخرج
الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما يخفون وما يعلنون، أي يعلم
السرائر والظواھر من المحسوسات والمعنويات {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ ھُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِیم} أي له العرش العظیم الذي لا أعظم منه في المخلوقات.
فعند ذلك بعث معه سلیمان علیه السلام كتابه يتضمن دعوته لھم
إلى طاعة الله وطاعة رسوله والإنابة والإذعان إلى الدخول في الخضوع
لملكه وسلطانه ولھذا قال لھم: {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ} أي لا تستكبروا عن
طاعتي وامتثال أوامري {وَأْتُونِي مُسْلِمِینَ} أي وأقدموا علي سامعین
مطیعین بلا معاودة ولا مراودة، فلما جاءھا الكتاب مع الطیر، ومن ثم اتخذ
الناس البطائق، ولكن أين الثريا من الثرى، تلك البطاقة كانت مع طائر
سامع مطیع فاھم عالم بما يقول ويقال له. فذكر غیر واحد من المفسرين
وغیرھم أن الھدھد حمل الكتاب وجاء إلى قصرھا فألقاه إلیھا وھي في
خلوة لھا ثم وقف ناحیة ينتظر ما يكون من جوابھا عن كتابھا، فجمعت
أمراءھا ووزراءھا وأكابر دولتھا إلى مشورتھا {قَالَتْ يَا أَيُّھَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ
إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيم} ثم قرأت علیھم عنوانه أولاً {إِنَّهُ مِنْ سُلَیْمَانَ} ثم قرأته
{وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِیمِ، أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِینَ} ثم
شاورتھم في أمرھا وما قد حل بھا وتأدبت معھم وخاطبتھم وھم يسمعون
{قَالَتْ يَا أَيُّھَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْھَدُونِي}
تعني ما كنت لأبت أمراً إلا وأنتم حاضرون {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ
شَدِيد} يعنون لنا قوة وقدرة على الجلاد والقتال ومقاومة الأبطال، فأن
أردت منا ذلك فإنا علیه من القادرين "و" مع ھذا {وَالأَمْرُ إِلَیْكِ فَانظُرِي مَاذَا
تَأْمُرِين} فبذلوا لھا السمع والطاعة، وأخبروھا بما عندھم من الطاعة،
وفوضوا إلیھا في ذلك الأمر لترى فیه ما ھو الأرشد لھا ولھم.
فكان رأيھا أتم وأشد من رأيھم، وعلمت أن صاحب ھذا الكتاب لا
يغالب ولا يمانع، ولا يخالف ولا يخادع {، قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً
أَفْسَدُوھَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَھْلِھَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} تقول برأيھا السديد: إن
ھذا الملك لو قد غلب على ھذه المملكة لم يخلص الأمر من بینكم إلا
إلى ولم تكن الحدة والشدة والسطوة البلیغة إلا عليّ {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ
إِلَیْھِمْ بِھَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} أرادت أن تصانع عن نفسھا. وأھل
مملكتھا بھدية ترسلھا، وتحف تبعثھا، ولم تعلم أن سلیمان علیه السلام
لا يقبل منھم والحالة ھذه صرفاً ولا عدلاً، لأنھم كافرون، وھو وجنوده
علیھم قادرون.
"و" لھذا {فَلَمَّا جَاءَ سُلَیْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَیْرٌ
مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِھَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} ھذا وقد كانت تلك الھدايا مشتملة
على أمور عظیمة، ذكره المفسرون.
ثم قال لرسولھا إلیه ووافدھا الذي قدم علیه والناس حاضرون
يسمعون {ارْجِعْ إِلَیْھِمْ، فَلَنَأْتِیَنَّھُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَھُمْ بِھَا وَلَنُخْرِجَنَّھُمْ مِنْھَا
أَذِلَّةً وَھُمْ صَاغِرُونَ} يقول ارجع بھديتك التي قدمت بھا إلى من قد منّ بھا
فإن عندي مما قد أنعم الله عليّ وأسداه إليّ من الأموال والتحف والرجال
ما ھو أضعاف ھذا وخیر من ھذا الذي أنتم تفرحون به وتفخرون على أبناء
جنسكم بسببه {ارْجِعْ إِلَیْھِمْ، فَلَنَأْتِیَنَّھُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَھُمْ بِھَا} أي فلأبعثن
إلیھم بجنود لا يستطیعون دفاعھم ولا نزالھم ولا ممانعتھم ولا قتالھم
ولأخرجنھم من بلدھم وحوزتھم ومعاملتھم ودولتھم أذلة {وَھُمْ صَاغِرُونَ}
علیھم الصغار والعار والدمار.
فلما بلغھم ذلك عن نبي الله لم يكن لھم بد من السمع والطاعة،
فبادروا إلى إجابته في تلك الساعة وأقبلوا صحبة الملكة أجمعین سامعین
مطیعین خاضعین، فلما سمع بقدومھم علیه ووفودھم إلیه قال لمن بین
يديه ممن ھو مسخر له من الجان ما قصه الله عنه في القرآن: {قَالَ يَا أَيُّھَا
المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِینِي بِعَرْشِھَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِینَ، قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ
أَنَا آتِیكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَیْهِ لَقَوِيٌّ أَمِینٌ، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ
عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِیكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَیْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ
قَالَ ھَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِیَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ، قَالَ نَكِّرُوا لَھَا عَرْشَھَا نَنظُرْ أَتَھْتَدِي
أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لا يَھْتَدُونَ، فَلَمَّا جَاءَت قِْیلَ أَھَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ ھُوَ
وَأُوتِینَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِھَا وَكُنَّا مُسْلِمِینَ، وَصَدَّھَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنَّھَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ، قِیلَ لَھَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً
وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَیْھَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَیْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ}
لما طلب سلیمان من الجان أن يحضروا له عرش بلقیس، وھو سرير
مملكتھا التي تجلسعلیه وقت حكمھا، قبل قدومھا علیه {قَالَ عِفْريتٌ
مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِیكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} يعني قبل أن ينقضي
مجلس حكمك، وكان فیما يقال من أول النھار إلى قريب الزوال يتصدى
لمھمات بني إسرائیل وما لھم من الأشغال {وَإِنِّي عَلَیْهِ لَقَوِيٌّ أَمِینٌ} أي
وإني لذو قدرة على إحضاره إلیك والأمانة على ما فیه من الجواھر
النفیسة لديك {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ} المشھور أنه آصف بن
برخینا، وھو ابن خالة سلیمان. وقیل: ھو رجل من مؤمني الجان، كان فیما
يقال يحفظ الاسم الأعظم وقیل رجل من بني إسرائیل من علماءھم،
وقیل: إنه سلیمان، وھذا غريب جداً. وضعفه السھیلي بأنه لا يصح في
سیاق الكلام قال: وقد قیل فیه قول رابع وھو: جبريل {أَنَا آتِیكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ
يَرْتَدَّ إِلَیْكَ طَرْفُكَ} قیل معناه قبل أن تبعث رسولاً إلى أقصى ما ينتھي إلیه
طرفك من الأرض ثم يعود إلیك وقیل قبل أن يصل إلیك أبعد من تراه من
الناس. وقیل قبل أن يكل طرفك إذا أدمت النظر به قبل أن تطبق جفنك.
وقیل قبل أن يرجع إلیك طرفك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته
وھذا أقرب ما قیل.
{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ} أي فلما رأى عرش بلقیسمستقراً عنده
في ھذه المدة القريبة من بلاد الیمن إلى بیت المقدس في طرفة عین
{قَالَ ھَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِیَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} أي ھذا من فضل الله
عليّ وفضله على عبیده لیختبرھم على الشكر أو خلافه {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي إنما يعود نفع ذلك علیه {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}
أي غني عن شكر الشاكرين ولا يتضرر بكفر الكافرين.
ثم أمر سلیمان علیه السلام أن يغیر حلي ھذا العرش وينكر لھا
لیختبر فھمھا وعقلھا ولھذا قال: {نَنظُرْ أَتَھْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لا
يَھْتَدُونَ، فَلَمَّا جَاءَت قِْیلَ أَھَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ ھُوَ} وھذا من فطنتھا
وغزارة فھمھا، لأنھا استبعدت أن يكون عرشھا لأنھا خلفته وراءھا بأرض
الیمن ولم تكن تعلم أن أحداً يقدر على ھذا الصنع العجیب الغريب قال الله
تعالى إخباراً عن سلیمان وقومه: {وَأُوتِینَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِھَا وَكُنَّا مُسْلِمِینَ،
وَصَدَّھَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّھَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي ومنعھا
عبادة الشمس التي كانت تسجد لھا ھي وقومھا من دون الله اتباعاً لدين
آباءھم وأسلافھم لا لدلیل قادھم إلى ذلك ولا حذاھم على ذلك.
وكان سلیمان قد أمر ببناء صرح من زجاج وعمل في ممره ماء، وجعل
علیه سقفاً من زجاج، وجعل فیه من السمك وغیرھا من دواب الماء،
وأمرت بدخول الصرح وسلیمان جالسعلى سريره فیه {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ
لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَیْھَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَیْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ} وقد قیل أن الجن
أرادوا أن يبشعوا منظرھا عند سلیمان وأن تبدي عن ساقیھا لیرى ما
علیھا من الشعر فینفره ذلك منھا، وخشوا أن يتزوجھا لأن أمھا من الجان
فتتسلط علیھم معه وذكر بعضھم أن حافرھا كان كحافر الدابة. وھذا
ضعیف وفي الأول أيضاً نظر. والله أعلم.
إلا أن سلیمان قیل إنه لما أراد إزالته حین عزم على تزوجھا سأل
الإنسعن زواله فذكروا له الموسى، فامتنعت من ذلك فسأل الجان
فصنعوا له النورة ووضعوا له الحمام، فكان أول من دخل الحمام فلما وجد
مسه قال أوه من عذاب أوه أوه قبل أن لا ينفع أوه.
وقد ذكر الثعلبي وغیره أن سلیمان لما تزوجھا أقرھا على مملكة
الیمن وردھا إلیھا، وكان يزورھا في كل شھر مرة، فیقیم عندھا ثلاثة أيام
ثم يعود على البساط، وأمر الجان فبنوا له ثلاثة قصور بالیمن: غمدان
وسالحین وبیتون. فالله أعلم.
وقد روى ابن إسحاق عن بعض أھل العلم عن وھب بن منبه أن
سلیمان لم يتزوجھا بل زوجھا بملك ھمدان، وأقرھا على ملك الیمن،
وسخر زوبعة ملك الیمن فبنى لھا القصور الثلاثة التي ذكرناھا بالیمن
والأول أشھر وأظھر، والله أعلم.
وقال تعالى في سورة ص: {وَوَھَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَیْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ
أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَیْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِیَادُ، فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَیْرِ
عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَت بِْالْحِجَابِ، رُدُّوھَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ
وَالأَعْنَاق، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَیْمَانَ وَأَلْقَیْنَا عَلَى كُرْسِیِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ، قَالَ رَبِّ
اغْفِرْ لِي وَھَب لِْي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَھَّابُ،
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَیْثُ أَصَابَ، وَالشَّیَاطِینَ كُلَّ بَنَّاءٍ
وَغَوَّاص، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِینَ فِي الأَصْفَادِ، ھَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَیْرِ
حِسَابٍ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
يذكر تعالى أنه وھب لداود سلیمان علیھما السلام، ثم أثنى الله
تعالى علیه فقال: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي رجاع مطیع لله. ثم ذكر تعالى
ما كان من أمره في الخیل الصافنات وھي التي تقف على ثلاث وطرف
حافر الرابعة، الجیاد وھي المضمرة السراع.
فقال: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَیْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَت بِْالْحِجَابِ}
يعني الشمس وقیل الخیل على ما سنذكره من القولین. {رُدُّوھَا عَلَيَّ
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاق} قیل مسح عراقیبھا وأعناقھا بالسیوف.
وقیل مسح عنھا العرق لما أجراھا وسابق بینھا بین يديه على القول
الآخر.
والذي علیه أكثر السلف الأول، فقالوا اشتغل بعرض تلك الخیول حتى
خرج وقت العصر وغربت الشمس. روى ھذا عن عليّ بن أبي طالب
وغیره. والذي يقطع به أنه لم يترك الصلاة عمداً من غیر عذر، اللھم إلا أن
يقال إنه كان سائغاً في شريعتھم فأخر الصلاة لأجل أسباب الجھاد وعرض
الخیل من ذلك.
وقد ادعى طائفة من العلماء في تأخیر النبي صلى الله علیه وسلم
صلاة العصر يوم الخندق إن ھذا كان مشروعاً إذ ذاك حتى نسخ بصلاة
الخوف، قاله الشافعي وغیره. وقال مكحول والأوزاعي: بل ھو حكم محكم
الى الیوم أنه يجوز تأخیرھا بعذر القتال الشديد. كما ذكرنا تقرير ذلك في
سورة النساء عند صلاة الخوف. وقال آخرون: بل كان تأخیر النبي صلى الله
علیه وسلم صلاة العصر يوم الخندق نسیاناً، وعلى ھذا فیحمل فعل
سلیمان علیة السلام على ھذا والله أعلم. وأما من قال: الضمیر في
قوله: {حَتَّى تَوَارَت بِْالْحِجَابِ} عائد على الخیل، وأنه لم تنتھي وقت صلاة
وأن المراد بقوله: {رُدُّوھَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاق} يعني
مسح العرق عن عراقیبھا وأعناقھا، فھذا القول اختاره ابن جرير ورواه
الوالبي عن ابن عباس في مسح العرق. ووجه ھذا القول ابن جرير بأنه ما
كان لیعذب الحیوان بالعرقبة ويھلك مالا بلا سبب ولا ذنب لھا. وھذا الذي
قاله فیه نظر لأنه قد يكون ھذا سائغاً في ملتھم وقد ذھب بعض علمائنا
الى أنه إذا خاف المسلمون أن يضفر الكفار على شيء من الحیوانات من
أغنام ونحوھا جاز ذبحھا وإھلاكھا لئلا يتقووا بھا. وعلیه حُمل صنیع جعفر
بن أبي طالب يوم عقر فرسه بمؤتة. وقد قیل إنھا كانت خیلاً عظیمة. قیل
كانت عشرة آلاف فرس. وقیل كانت عشرين ألف فرس. وقیل كان فیھا
عشرون فرساً من ذوات الأجنحة.
وقد روى أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا سعید بن
أبي مريم، أنبأنا يحیى بن أيوب، حدثني عمارة بن غزية، أن محمد بن
إبراھیم حدثه عن محمد بن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة
قالت: قدم رسول الله صلى الله علیه وسلم من غزوة تبوك أو خیبر وفي
سھوتھا ستر، فھبت الريح فكشفت ناحیة الستر عن بنات لعائشة لعب
فقال: ما ھذا يا عائشة؟ فقالت: بناتي. ورأى بینھن فرساً له جناحان من
رقاع. فقال: ما ھذا الذي أرى وسطھن؟ قالت: فرس. قال: وما الذي علیه
ھذا؟ قالت: جناحان. قال: فرس له جناحان! قالت: أما سمعت أن
لسلیمان خیلاً لھا أجنحة. قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه صلى الله علیه
وسلم.
قال بعض العلماء لما ترك الخیل لله عوضه الله عنھا بما ھو خیر له
منھا، وھو الريح التي كان غدوھا شھر ورواحھا شھر، كما سیأتي الكلام
علیھا.
كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعیل، حدثنا سلیمان بن المغیرة، عن
حمید بن ھلال، عن أبي قتادة وأبي الدھماء، وكانا يكثران السفر نحو
البیت قالا: أتینا على رجل من أھل البادية فقال البدوي: أخذ بیدي رسول
الله صلى الله علیه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل وقال "إنك
لا تدع شیئاً اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خیراً منه".
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَیْمَانَ وَأَلْقَیْنَا عَلَى كُرْسِیِّهِ جَسَداً ثُمَّ
أَنَابَ}.
ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم وغیرھما من المفسرين ھا ھنا آثاراً
كثیرة عن جماعة من السلف. وأكثرھا أو كلھا متلقاة من الإسرائیلیات،
وفي كثیر منھا نكارة شديدة، وقد نبھنا على ذلك في كتابنا التفسیر
واقتصرنا ھا ھنا على مجرد التلاوة.
ومضمون ما ذكروه أن سلیمان علیه السلام غاب عن سريره أربعین
يوماً ثم عاد إلیه، ولما عاد أمر ببناء بیت المقدس، فبناه بناء محكماً، وقد
قدمنا أنه جدده، وأن أول من جعله مسجداً إسرائیل علیه السلام، كما
ذكرنا ذلك عند قول أبي ذر: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال:
المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: مسجد بیت المقدس، قلت: كم
بینھما. قال: أربعون سنة.
ومعلوم أن بین إبراھیم الذي بنى المسجد الحرام وبین سلیمان بن
داود علیھما السلام أزيد من ألف سنة دع أربعین سنة، وكان سؤاله الملك
الذي لا ينبغي لأحد من بعده بعد إكماله البیت المقدس؟ قال الإمام أحمد
والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم بأسانیدھم عن عبد
الله بن فیروز الديلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله
صلى الله علیه وسلم : إن سلیمان لما بنى بیت المقدس سأل ربه عز
وجل خلالاً ثلاثاً، فأعطاه اثنتین، ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة: سأله
حكماً يصادف حكمه.
فأعطاه إياه، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله
أيما رجل خرج من بیته لا يريد إلا الصلاة في ھذا المسجد خرج من
خطیئته مثل يوم ولدته أمه. فنحن نرجو أن يكون الله قد أعطانا إياھا.
فأما الحكم الذي يوافق حكم الله تعالى فقد أثنى الله تعالى علیه
وعلى أبیه في قوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَیْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ
فِیهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِھِمْ شَاھِدِينَ، فَفَھَّمْنَاھَا سُلَیْمَانَ وَكُلّاً آتَیْنَا حُكْماً
وَعِلْماً} وقد ذكر شريح القاضي وغیر واحد من السلف أن ھؤلاء القوم كان
لھم كرم فنفشت فیه غنم قوم آخرين، أي رعته باللیل، فأكلت شجره
بالكلیة، فتحاكموا إلى داود علیه السلام فحكم لأصحاب الكرم بقیمته.
فلما خرجوا على سلیمان قال: بم حكم لكم نبي الله؟ فقالوا: بكذا وكذا
فقال: أما لو كنت أنا لما حكمت إلا بتسلیم الغنم إلى أصحاب الكرم
فیستغلونھا نتاجاً ودراً، حتى يصلح أصحاب الغنم كرم أولئك ويردوه إلى ما
كان علیه، ثم يتسلموا غنمھم، فبلغ داود علیه السلام ذلك فحكم به.
وقريب من ھذا ما ثبت في الصحیحین من حديث أبي الزناد، عن
الأعرج، عن أبي ھريرة قال: قال رسول الله صلى الله علیه وسلم : "بینما
امرأتان معھما ابناھما، إذ عدا الذئب فأخذ ابن إحداھما، فتنازعتا في
الآخر، فقالت الكبرى: إنما ذھب بابنك، وقالت الصغرى: بل إنما ذھب
بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فحكم به للكبرى، فخرجتا على سلیمان فقال:
ائتوني بالسكین أشقه نصفین لكل واحدة منكما نصفه. فقالت الصغرى:
يرحمك الله ھو ابنھا. فقضى به لھا".
ولعل كلاً من الحكمین كان سائغاً في شريعتھم، ولكن ما قاله
سلیمان أرجح، ولھذا أثنى الله علیه بما ألھمه إياه، ومدح بعد ذلك أباه
فقال: {وَكُلّاً آتَیْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّیْرَ وَكُنَّا
فَاعِلِینَ، وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَھَلْ أَنْتُمْ
شَاكِرُونَ}.
ثم قال: {وَلِسُلَیْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أي وسخرنا لسلیمان الريح عاصفة
{تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِیھَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِینَ، وَمِنْ
الشَّیَاطِینِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَھُمْ حَافِظِینَ}.
وقال في سورة ص: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَیْثُ أَصَاب،
كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِینَ فِي الأَصْفَادِ، ھَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ
بِغَیْرِ حِسَابٍ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
لمّا ترك الخیل ابتغاء وجه الله عوضه الله منھا بالريح التي ھي أسرع
سیراً وأقوى وأعظم ولا كلفة علیه لھا {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَیْثُ أَصَاب} أي
حیث أراد من أي البلاد، كان له بساط مركب من أخشاب، بحیث إنه سمع
جمیع ما يحتاج إلیه من الدور المبنیة والقصور والخیام والأمتعة والخیول
والجمال والأثقال والرجال من الإنسوالجان، وغیر ذلك من الحیوانات
والطیور فإذا أراد سفراً أو مستنزھاً، أو قتال ملك أو أعداء من أي بلاد الله
شاء. فإذا حمل ھذه الأمور المذكورة على البساط أمر الريح فدخلت تحته
فرفعته فإذا استقل بین السماء والأرض أمر الرخاء فسارت به، فإن أراد
أسرع من ذلك أمر العاصفة فحملته أسرع ما يكون، فوضعته في أي مكان
شاء، بحیث إنه كان يرتحل في أول النھار من بیت المقدس، فتغدو به
الريح فتضعه بإصطخر مسیرة شھر، فیقیم ھناك إلى آخر النھار، ثم يروح
من آخره فترده إلى بیت المقدس.
كما قال تعالى: {وَلِسُلَیْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّھَا شَھْرٌ وَرَوَاحُھَا شَھْرٌ وَأَسَلْنَا
لَهُ عَیْنَ الْقِطْرِ وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَیْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغ مِْنْھُمْ عَنْ
أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِیرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِیلَ
وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِیَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِیلٌ مِنْ عِبَادِي
الشَّكُورُ}.
قال الحسن البصري: كان يغدو من دمشق فینزل بإصطخر فیتغدى
بھا، ويذھب رائحاً منھا، فیبیت بكابل، وبین دمشق وبین اصطخر مسیرة
شھر، وبین اصطخر وكابل مسیرة شھر.
قلت: قد ذكر المتكلمون على العمران والبلدان أن اصطخر بنتھا الجان
لسلیمان، وكان فیھا قرار مملكة الترك قديماً، وكذلك غیرھا من بلدان
شتى، كتدمر وبیت المقدس وباب جیرون وباب البريد اللذان بدمشق على
أحد الأقوال.
وأما القطر فقال ابن عباس ومجاھد وعكرمة وقتادة وغیر واحد: ھو
النحاس. قال قتادة: وكانت بالیمن أنبعھا الله له. قال السدي: ثلاثة أيام
فقط أخذ منھا جمیع ما يحتاج إلیه للبنايات وغیرھا.
وقوله: {وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَیْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغ مِْنْھُمْ عَنْ
أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِیرِ}. أي وسخر الله له من الجن عمالاً يعملون له
ما يشاء، لا يفترون ولا يخرجون عن طاعته، ومن خرج منھم عن الأمر عذبه
ونكل به {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} وھي الأماكن الحسنة وصدور
المجالس{وَتَمَاثِیل} وھي الصور في الجدران، وكان ھذا سائغاً في
شريعتھم وملتھم {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} قال ابن عباس: الجفنة كالجوبة من
الأرض. وعنه كالحیاض. وكذا قال مجاھد والحسن وقتادة والضحاك
وغیرھم. وعلى ھذه الرواية يكون الجواب جمع جابیة وھي الحوض الذي
يجبى فیه الماء، قال الأعمش:
تروح على آل المحلق جفنة *** كجابیة الشیخ العراقي تفھق
وأما القدور الراسیات فقال عكرمة: أثافیھا منھا، يعني أنھن ثوابت لا
يزلن عن أماكنھن، وھكذا قال مجاھد وغیر واحد.
ولما كان ھذا بصدد إطعام الطعام والإحسان إلى الخلق من إنسان
وحیوان قال تعالى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِیلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}.
وقال تعالى: {وَالشَّیَاطِینَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِینَ فِي
الأَصْفَادِ} يعني أن منھم من قد سخره الله في البناء ومنھم من يأمره
بالغوص في الماء لاستخراج ما ھنالك من الجواھر واللآلئ وغیر ذلك مما
لا يوجد إلا ھنالك. وقوله: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِینَ فِي الأَصْفَادِ} أي قد عصوا
فقیدوا مقرنین اثنین اثنین في الأصفاد وھي القیود، وھذا كله من جملة
ما ھیأه الله وسخر له من الأشیاء التي ھي من تمام الملك الذي لا
ينبغي لأحد من بعده، ولم يكن أيضاً لمن كان قبله.
وقد قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا
شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي ھريرة عن النبي صلى الله علیه
وسلم قال: "إن عفريتاً من الجن تفلت عليّ البارحة لیقطع عليّ صلاتي،
فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري
المسجد حتى تنظروا إلیه كلكم، فذكرت دعوة أخي سلیمان: {قَالَ رَبِّ
اغْفِرْ لِي وَھَب لِْي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فرددته خاسئاً.
وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة.
وقال مسلم: حدثنا محمد بن سلمة المرادي، حدثنا عبد الله بن وھب
عن معاوية بن صالح، حدثني ربیعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن
أبي الدرداء قال: قام رسول الله صلى الله علیه وسلم يصلي فسمعناه
يقول: أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله ثلاثاً، وبسط يده كأنه يتناول شیئاً،
فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله: قد سمعناك تقول في الصلاة شیئاً
لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك قال: "إن عدو الله إبلیس
جاء بشھاب من نار لیجعله في وجھي فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات.
ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه،
والله لولا دعوة أخینا سلیمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أھل المدينة".
وكذا رواه النسائي عن محمد بن سلمة به.
وقال أحمد: حدثنا أبو أحمد، حدثنا مرة بن معبد، حدثنا أبو عبید حاجب
سلیمان، قال: رأيت عطاء بن يزيد اللیثي قائماً يصلي، فذھبت أمرّ بین
يديه فردني ثم قال: حدثني أبو سعید الخدري أن رسول الله صلى الله
علیه وسلم قام فصلى صلاة الصبح وھو خلفه فقرأ فالتبست علیه القراءة.
فلما فرغ من صلاته قال: "لو رأيتموني وإبلیس فأھويت بیدي فما زلت
أخنقه حتى وجدت برد لعابه بین إصبعي ھاتین الإبھام والتي تلیھا، ولولا
دعوة أخي سلیمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به
صبیان المدينة، فمن استطاع منكم ألا يحول بینه وبین القبلة أحدٌ
فلیفعل".
روى أبو داود منه "فمن استطاع" إلى آخره عن أحمد بن سريج عن
أحمد الزبیري به.
وقد ذكر غیر واحد من السلف أنه كانت لسلیمان من النساء ألف امرأة
سبعمائة بمھور وثلاثمائة سراري. وقیل بالعكسثلاثمائة حرائر وسبعمائة
من الإماء، وقد كان يطیق من التمتع بالنساء أمراً عظیماً جداً.
قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا مغیرة بن عبد الرحمن عن
أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي ھريرة، عن النبي صلى الله علیه وسلم
قال: قال سلیمان بن داود: لأطوفن اللیلة على سبعین امرأة تحمل كل
امرأة فارساً يجاھد في سبیل الله. فقال له صاحبه: إن شاء الله. فلم يقل،
فلم تحمل شیئاً إلا واحداً ساقطاً أحد شقیه. فقال النبي صلى الله علیه
وسلم: "لو قالھا لجاھدوا في سبیل الله". وقال شعیب وابن أبي الزناد:
تسعین وھو أصح. تفرد به البخاري من ھذا الوجه.
وقال أبو يعلى: حدثنا زھیر، حدثنا يزيد، أنبأنا ھشام بن حسان عن
محمد، عن أبي ھريرة، قال: قال رسول الله صلى الله علیه وسلم : قال
سلیمان بن داود: لأطوفن اللیلة على مائة امرأة كل امرأة منھن تلد غلاماً
يضرب بالسیف في سبیل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف تلك اللیلة
على مائة امرأة فلم تلد منھن امرأة، إلا امرأة ولدت نصف إنسان، فقال
رسول الله صلى الله علیه وسلم : "لو قال: إن شاء الله لولدت كل امرأة
منھن غلاماً يضرب بالسیف في سبیل الله عز وجل".
إسناده على شرط الصحیح ولم يخرجوه من ھذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا ھشیم، حدثنا ھشام، عن ابن سیرين، عن
أبي ھريرة قال: قال سلیمان بن داود: لأطوفن اللیلة على مائة امرأة تلد
كل واحدة منھن غلاماً يقاتل في سبیل الله، ولم يستثن. فما ولدت إلا
واحدة منھن بشق إنسان. قال: قال رسول الله صلى الله علیه وسلم "لو
استثنى لولد له مائة غلام يقاتل في سبیل الله عز وجل". تفرد به أحمد
أيضاً.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن ابن طاووس، عن
أبیه، عن أبي ھريرة قال: قال رسول الله صلى الله علیه وسلم : قال
سلیمان بن داود، لأطوفن اللیلة بمائة امرأة تلد كل امرأة منھن غلاماً
يقاتل في سبیل الله قال: نسي أن يقول: إن شاء الله، فأطاف بھن قال:
فلم تلد منھن امرأة إلا واحدة نصف إنسان. فقال رسول الله صلى الله علیه
وسلم : "لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته".
وھكذا أخرجاه في الصحیحین من حديث عبد الرزاق به مثله. قال
إسحاق بن بشر: أنبأنا مقاتل، عن أبي الزناد، وابن أبي الزناد عن أبیه،
عن عبد الرحمن، عن أبي ھريرة، أن سلیمان بن داود كان له أربعمائة
امرأة وستمائة سرية فقال يوماً: لأطوفن اللیلة على ألف امرأة، فتحمل كل
واحدة منھن بفارس يجاھد في سبیل الله. ولم يستثن فطاف علیھن، فلم
تحمل واحدة منھن، إلا امرأة واحدة منھن جاءت بشق إنسان. فقال النبي
صلى الله علیه وسلم : "والذي نفسي بیده لو استثنى فقال إن شاء الله
لولد له ما قال فرسان، ولجاھدوا في سبیل الله عز وجل".
وھذا إسناد ضعیف لحال إسحاق بن بشر، فإنه منكر الحديث ولا
سیما وقد خالف الروايات الصحاح.
وقد كان له علیه السلام من أمور الملك واتساع الدولة كثرة الجنود
وتنوعھا ما لم يكن لأحد قبله، ولا يعطیه الله أحداً بعده، كما قال: {وَأُوتِینَا
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَھَب لِْي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَھَّابُ} وقد أعطاه الله ذلك بنص الصادق المصدوق.
ولما ذكر تعالى ما أنعم به علیه وأسداه من النعم الكاملة العظیمة
إلیه قال: {ھَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَیْرِ حِسَابٍ} أي أعط من شئت
واحرم من شئت، فلا حساب علیك، أي: تصرف في المال كیف شئت، فإن
الله قد سوغ لك ما تفعله من ذلك، ولا يحاسبك على ذلك، وھذا شأن
النبي الملك، بخلاف العبد الرسول، فإن من شأنه أن لا يعطي أحداً إلا
بإذن الله له في ذلك.
وقد خُیر نبینا محمد صلوات الله وسلامه علیه بین ھذين المقامین،
فاختار أن يكون عبداً رسولاً. وفي بعض الروايات أنه استشار جبريل في
ذلك فأشار إلیه أن تواضع. فاختار أن يكون عبداً رسولاً، صلوات الله وسلامه
علیه، وقد جعل الله الخلافة والملك من بعده في أمته إلى يوم القیامة،
فلا تزال طائفة من أمته ظاھرين حتى تقوم الساعة. فلله الحمد والمنة.
ولما ذكر تعالى ما وھبه لنبیه سلیمان علیه السلام من خیر الدنیا،
نبه لما أعده له في الآخرة من الثواب الجزيل والأجر الجمیل والقربة التي
تقربه إلیه والفوز العظیم والإكرام بین يديه، وذلك يوم المعاد والحساب
حیث يقول تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
عدل سابقا من قبل Admin في الثلاثاء 18 يونيو - 2:44:56 عدل 1 مرات
يتبع
لقصة سليمان عليه السلام
ذكر وفاته وكم كانت مدة ملكه وحیاته
قال الله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا قَضَیْنَا عَلَیْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّھُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ
دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَیَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَیْبَ مَا
لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُھِینِ}.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغیرھما من حديث إبراھیم ابن طھمان
عن عطاء بن السائب، عن سعید بن جبیر، عن ابن عباس عن النبي صلى
الله علیه وسلم قال: كان سلیمان نبي الله علیه السلام إذا صلى رأى
شجرة نابتة بین يديه فیقول لھا: ما اسمك؟ فتقول: كذا. فیقول لأي شيء
أنت؟ فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء أنبتت. فبینما ھو يصلي
ذات يوم إذ رأى شجرة بین يديه فقال لھا ما اسمك: قالت: الخروب. قال:
لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب ھذا البیت. فقال سلیمان: اللھم عَمِّ على
الجن موتي، حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغیب، فنحتھا عصاً
فتوكأ علیھا حولاً، والجن تعمل، فأكلتھا الأرضة فتبینت الإنس أن الجن لو
كانوا يعلمون الغیب ما لبثوا حولاً في العذاب المھین. قال: وكان ابن عباس
يقرؤھا كذلك. فشكرت الجن للأرضة فكانت تأتیھا بالماء.
لفظ ابن جرير. وعطاء الخراساني في حديثه نكارة. وقد رواه الحافظ
ابن عساكر من طريق سلمة بن كھیل، عن سعید بن جبیر، عن ابن
عباس موقوفاً. وھو أشبه بالصواب والله أعلم.
وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن
عباس، وعن أناس من الصحابة: كان سلیمان علیه السلام يتجرد في بیت
المقدس السنة والسنتین والشھر والشھرين وأقل من ذلك وأكثر يدخل
طعامه وشرابه فأدخله في المرة التي توفي فیھا فكان بدء ذلك أنه لم
يكن يوم يصبح فیه إلا نبتت في بیت المقدس شجرة يأتیھا فیسألھا ما
اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا. فإن كانت لغرس غرسھا وإن
كانت نبتت دواء قالت نبت دواء لكذا وكذا. فیجعلھا كذلك حتى نبتت شجرة
يقال لھا الخروبة فسألھا ما اسمك؟ فقالت: أنا الخروبة. فقال: ولأي شيء
نبتِّ؟ فقالت: نبتُّ لخراب ھذا المسجد فقال سلیمان: ما كان الله لیخربه
وأنا حي، أنت التي على وجھك ھلاكي وخراب بیت المقدس. فنزعھا
وغرسھا في حائط له.
ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات ولم به تعلم
الشیاطین. وھم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فیعاقبھم، وكانت
الشیاطین تجتمع حول المحراب، وكان المحراب له كوىً بین يديه وخلفه،
فكان الشیطان الذي يريد أن يخلع يقول: ألست جلیداً إن دخلت فخرجت
من ذلك الجانب. فیدخل حتى يخرج من الجانب الآخر. فدخل شیطان من
أولئك فمر ولم يكن شیطان ينظر إلى سلیمان علیه السلام وھو في
المحراب إلا احترق، فلم يسمع صوت سلیمان، ثم رجع فلم يسمع ثم رجع
فوقع في البیت ولم يحترق ونظر إلى سلیمان علیه السلام قد سقط
میتاً، فخرج فأخبر الناس أن سلیمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا
مِنْسأته وھي العصا بلسان الحبشة، قد أكلتھا الأرضة ولم يعلموا منذ كم
مات فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منھا يوماً ولیلة، ثم حسبوا على
ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وھي قراءة ابن مسعود: فمكثوا
يدأبون له من بعد موته حولاً كاملاً فأيقن الناسعند ذلك أن الجن كانوا
يكذبون ولو أنھم علموا الغیب لعلموا بموت سلیمان ولم يلبثوا في العذاب
سنة يعملون له ذلك، وذلك قول الله عز وجل: {مَا دَلَّھُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ
الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَیَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَیْبَ مَا لَبِثُوا
فِي الْعَذَابِ الْمُھِینِ} يقول: تبین أمرھم للناس أنھم كانوا يكذبون، ثم إن
الشیاطین قالوا للأرضة: لو كنت تأكلین الطعام لأتیناك بأطیب الطعام، ولو
كنت تشربین الشراب سقیناك أطیب الشراب، ولكنا سننقل إلیك الماء
والطین. قال: فإنھم ينقلون إلیھا ذلك حیث كانت. قال: ألم تر إلى الطین
الذي يكون في جوف الخشب فھو ما يأتیھا به الشیطان تشكراً لھا.
وھذا فیه من الإسرائیلیات التي لا تصدق ولا تكذب.
وقال أبو داود في كتاب القدر: حدثنا عثمان بن أبي شیبة، حدثنا
قبیصة، حدثنا سفیان، عن الأعمش، عن خیثمة، قال: قال سلیمان بن
داود علیھما السلام لملك الموت: إذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني.
قال: ما أنا أعلم بذاك منك إنما ھي كتب يلقى إليّ فیھا تسمیة من
يموت.
وقال أصبغ بن الفرج وعبد الله بن وھب، عن عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم قال: قال سلیمان لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني، فأتاه فقال:
يا سلیمان قد أمرت بك قد بقیت لك سويعة. فدعا الشیاطین فبنوا علیه
صرحاً من قوارير لیس له باب، فقام يصلي، فاتكأ على عصاه قال: فدخل
علیه ملك الموت فقبض روحه وھو متوكئ على عصاه، ولم يصنع ذلك فراراً
من ملك الموت. قال: والجن تعمل بین يديه وينظرون إلیه يحسبون أنه
حي. قال: فبعث الله دابة الأرض يعني إلى منسأته فأكلتھا، حتى إذا
أكلت جوف العصا ضعفت وثقل علیھا فخرَّ، فلما رأت الجن ذلك انفضوا
وذھبوا. قال: فذلك قوله: {مَا دَلَّھُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ
فَلَمَّا خَرَّ تَبَیَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَیْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ
الْمُھِینِ}.
قال أصبغ: وبلغني عن غیره أنھا مكثت سنة تأكل من منسأته حتى
خر. وقد روى نحو ھذا عن جماعة من السلف وغیرھم.. والله تعالى أعلم.
قال إسحاق بن بشر عن محمد بن إسحاق، عن الزھري وغیره أن
سلیمان علیه السلام عاش اثنتین وخمسین سنة وكان ملكه أربعین
سنة. وقال إسحاق: أنبأنا أبو روق، عن عكرمة، عن ابن عباس أن ملكه
كان عشرين سنة. والله أعلم. وقال ابن جرير: فكان جمیع عمر سلیمان بن
داود علیھما السلام نیفاً وخمسین سنة. وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ
ببناء بیت المقدس فیما ذكر ثم ملك بعده ابنه رحبعام مدة سبع عشرة
سنة فیما ذكره ابن جرير وقال: ثم تفرقت بعده مملكة بني إسرائیل.
لقصة سليمان عليه السلام
ذكر وفاته وكم كانت مدة ملكه وحیاته
قال الله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا قَضَیْنَا عَلَیْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّھُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ
دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَیَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَیْبَ مَا
لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُھِینِ}.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغیرھما من حديث إبراھیم ابن طھمان
عن عطاء بن السائب، عن سعید بن جبیر، عن ابن عباس عن النبي صلى
الله علیه وسلم قال: كان سلیمان نبي الله علیه السلام إذا صلى رأى
شجرة نابتة بین يديه فیقول لھا: ما اسمك؟ فتقول: كذا. فیقول لأي شيء
أنت؟ فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء أنبتت. فبینما ھو يصلي
ذات يوم إذ رأى شجرة بین يديه فقال لھا ما اسمك: قالت: الخروب. قال:
لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب ھذا البیت. فقال سلیمان: اللھم عَمِّ على
الجن موتي، حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغیب، فنحتھا عصاً
فتوكأ علیھا حولاً، والجن تعمل، فأكلتھا الأرضة فتبینت الإنس أن الجن لو
كانوا يعلمون الغیب ما لبثوا حولاً في العذاب المھین. قال: وكان ابن عباس
يقرؤھا كذلك. فشكرت الجن للأرضة فكانت تأتیھا بالماء.
لفظ ابن جرير. وعطاء الخراساني في حديثه نكارة. وقد رواه الحافظ
ابن عساكر من طريق سلمة بن كھیل، عن سعید بن جبیر، عن ابن
عباس موقوفاً. وھو أشبه بالصواب والله أعلم.
وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن
عباس، وعن أناس من الصحابة: كان سلیمان علیه السلام يتجرد في بیت
المقدس السنة والسنتین والشھر والشھرين وأقل من ذلك وأكثر يدخل
طعامه وشرابه فأدخله في المرة التي توفي فیھا فكان بدء ذلك أنه لم
يكن يوم يصبح فیه إلا نبتت في بیت المقدس شجرة يأتیھا فیسألھا ما
اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا. فإن كانت لغرس غرسھا وإن
كانت نبتت دواء قالت نبت دواء لكذا وكذا. فیجعلھا كذلك حتى نبتت شجرة
يقال لھا الخروبة فسألھا ما اسمك؟ فقالت: أنا الخروبة. فقال: ولأي شيء
نبتِّ؟ فقالت: نبتُّ لخراب ھذا المسجد فقال سلیمان: ما كان الله لیخربه
وأنا حي، أنت التي على وجھك ھلاكي وخراب بیت المقدس. فنزعھا
وغرسھا في حائط له.
ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات ولم به تعلم
الشیاطین. وھم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فیعاقبھم، وكانت
الشیاطین تجتمع حول المحراب، وكان المحراب له كوىً بین يديه وخلفه،
فكان الشیطان الذي يريد أن يخلع يقول: ألست جلیداً إن دخلت فخرجت
من ذلك الجانب. فیدخل حتى يخرج من الجانب الآخر. فدخل شیطان من
أولئك فمر ولم يكن شیطان ينظر إلى سلیمان علیه السلام وھو في
المحراب إلا احترق، فلم يسمع صوت سلیمان، ثم رجع فلم يسمع ثم رجع
فوقع في البیت ولم يحترق ونظر إلى سلیمان علیه السلام قد سقط
میتاً، فخرج فأخبر الناس أن سلیمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا
مِنْسأته وھي العصا بلسان الحبشة، قد أكلتھا الأرضة ولم يعلموا منذ كم
مات فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منھا يوماً ولیلة، ثم حسبوا على
ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وھي قراءة ابن مسعود: فمكثوا
يدأبون له من بعد موته حولاً كاملاً فأيقن الناسعند ذلك أن الجن كانوا
يكذبون ولو أنھم علموا الغیب لعلموا بموت سلیمان ولم يلبثوا في العذاب
سنة يعملون له ذلك، وذلك قول الله عز وجل: {مَا دَلَّھُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ
الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَیَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَیْبَ مَا لَبِثُوا
فِي الْعَذَابِ الْمُھِینِ} يقول: تبین أمرھم للناس أنھم كانوا يكذبون، ثم إن
الشیاطین قالوا للأرضة: لو كنت تأكلین الطعام لأتیناك بأطیب الطعام، ولو
كنت تشربین الشراب سقیناك أطیب الشراب، ولكنا سننقل إلیك الماء
والطین. قال: فإنھم ينقلون إلیھا ذلك حیث كانت. قال: ألم تر إلى الطین
الذي يكون في جوف الخشب فھو ما يأتیھا به الشیطان تشكراً لھا.
وھذا فیه من الإسرائیلیات التي لا تصدق ولا تكذب.
وقال أبو داود في كتاب القدر: حدثنا عثمان بن أبي شیبة، حدثنا
قبیصة، حدثنا سفیان، عن الأعمش، عن خیثمة، قال: قال سلیمان بن
داود علیھما السلام لملك الموت: إذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني.
قال: ما أنا أعلم بذاك منك إنما ھي كتب يلقى إليّ فیھا تسمیة من
يموت.
وقال أصبغ بن الفرج وعبد الله بن وھب، عن عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم قال: قال سلیمان لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني، فأتاه فقال:
يا سلیمان قد أمرت بك قد بقیت لك سويعة. فدعا الشیاطین فبنوا علیه
صرحاً من قوارير لیس له باب، فقام يصلي، فاتكأ على عصاه قال: فدخل
علیه ملك الموت فقبض روحه وھو متوكئ على عصاه، ولم يصنع ذلك فراراً
من ملك الموت. قال: والجن تعمل بین يديه وينظرون إلیه يحسبون أنه
حي. قال: فبعث الله دابة الأرض يعني إلى منسأته فأكلتھا، حتى إذا
أكلت جوف العصا ضعفت وثقل علیھا فخرَّ، فلما رأت الجن ذلك انفضوا
وذھبوا. قال: فذلك قوله: {مَا دَلَّھُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ
فَلَمَّا خَرَّ تَبَیَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَیْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ
الْمُھِینِ}.
قال أصبغ: وبلغني عن غیره أنھا مكثت سنة تأكل من منسأته حتى
خر. وقد روى نحو ھذا عن جماعة من السلف وغیرھم.. والله تعالى أعلم.
قال إسحاق بن بشر عن محمد بن إسحاق، عن الزھري وغیره أن
سلیمان علیه السلام عاش اثنتین وخمسین سنة وكان ملكه أربعین
سنة. وقال إسحاق: أنبأنا أبو روق، عن عكرمة، عن ابن عباس أن ملكه
كان عشرين سنة. والله أعلم. وقال ابن جرير: فكان جمیع عمر سلیمان بن
داود علیھما السلام نیفاً وخمسین سنة. وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ
ببناء بیت المقدس فیما ذكر ثم ملك بعده ابنه رحبعام مدة سبع عشرة
سنة فیما ذكره ابن جرير وقال: ثم تفرقت بعده مملكة بني إسرائیل.
مواضيع مماثلة
للمشاركة انت بحاجه الى تسجيل الدخول او التسجيل
يجب ان تعرف نفسك بتسجيل الدخول او بالاشتراك معنا للمشاركة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى