باب ذكر امم اهلكوا بعامه
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
قََََََصَصُ الأنْبِیَاءِ
للإمام ابن الحافظ ابن كثیر
باب ذكر أُمَم أُھلكوا بعَامّة.
وذلك قبل نزول التوراة بدلیل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَیْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ
بَعْدِ مَا أَھْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} الآية.
كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من حديث عوف الأعرابي عن
أبي نضرة عن أبي سعید الخدري قال: ما أھلك الله قوماً بعذاب من السماء
أو من الأرض بعد ما أنزلت التوراة على وجه الأرض غیر القرية التي مسخوا
قردة ألم تر أن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ آتَیْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَھْلَكْنَا
الْقُرُونَ الأُولَى}.
ورفعه البزار في رواية له. والأشبه والله أعلم وقفه، فدل على أن كل أمة
أھلكت بعامة قبل موسى علیه السلام.
فمنھم:
أصحاب الرَّسِّ
قال الله تعالى في سورة الفرقان {وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَیْنَ
ذَلِكَ كَثِیراً، وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِیراً} وقال الله تعالى في صورة
ق: {كَذَّبَتْ قَبْلَھُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ، وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ،
وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِیدِ}.
وھذا السیاق والذي قبله يدل على أنھم أھلكوا ودمروا، وتبرّوا وھو
الھلاك.
وھذا يرد اختیار ابن جرير من أنھم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة
البروج، لأنّ أولئك عند بن إسحاق وجماعة كانوا بعد المسیح علیه السلام
وفیه نظر أيضاً.
وروى ابن جرير قال: قال ابن عبَّاس: أصحاب الرس أھل قرية من قرى
ثمود.
وقد ذكر الحافظ الكبیر أبو القاسم بن عساكر في أول تاريخه عند ذكر بناء
دمشق عن تاريخ أبي القاسم عبد الله بن عبد الله بن جرداد وغیره أن
أصحاب الرس كانوا بِحَضَوَّر، فبعث الله إلیھم نبیّاً يقال له: حنظلة بن صفوان،
فكذبوه وقتلوه، فسار عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح بولده من الرس،
فنزل الأحقاف، وأھلك الله أصحاب الرَّس، وانتشروا في الیمن كلھا، وفشوا
مع ذلك في الأرض كلھا، حتى نزل جیرون بن سعد بن عاد بن عوص بن ارم
بن سام بن نوح دمشق، وبنى مدينتھا، وسماھا جیرون، وھي ارم ذات
العماد، ولیس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منھا بدمشق، فبعث الله ھود
بن عبد الله بن رباح بن خالد بن الحلود بن عاد إلى عاد، يعني أولاد عاد
بالأحقاف، فكذبوه فأھلكم الله عز وجل.
فھذا يقتضي أن أصحاب الرس قبل عاد بدھور متطاولة فالله أعلم.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي عاصم عن أبیه عن شبیب بن
بشر عن عكرمة عن ابن عبَّاس قال: الرس بئر بأذربیجان. وقال الثوري عن
أبي بكر عن عكرمة قال: الرس بئر رسّوا فیھا نبیَّھم، أي دفنوه فیھا.
قال ابن جُرَيْج قال عكرمة: أصحاب الرَّسِّ بفلج، وھم أصحاب يس. وقال
قتادة: فلج من قرى الیمامة.
قلت: فإن كانوا أصحاب ياسین كما زعمه عكرمة فقد أھلكوا بعامة، قال
الله تعالى في قصتھم: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَیْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا ھُمْ خَامِدُونَ} وستأتي
قصتھم بعد ھؤلاء.
وإن كانوا غیرھم وھو الظاھر فقد اھلكوا أيضاً وتبرّوا. وعلى كل تقدير
فینافي ما ذكره ابن جرير.
وقد ذكر أبو بكر مُحَمْد بن الحسن النقاش أن أصحاب الرس كانت لھم بئر
ترويھم وتكفي أرضھم جمیعھا، وكان لھم ملك عادل حسن السیرة، فلما
مات وجدوا علیه وجداً عظیماً، فلما كان بعد أيام تصوّر لھم الشّیْطان في
صورته، وقال: إني لم أمت، ولكن تغیبت عنكم حتى أرى صنیعكم، ففرحوا
أشد الفرح وأمر بضرب حجاب بینھم وبینه، وأخبرھم أنه لا يموت أبداً، فصدق
به أكثرھم وافتتنوا به وعبدوه. فبعث الله فیھم نبیاً فأخبرھم أن ھذا شیطان
يخاطبھم من وراء الحجاب، ونھاھم عن عبادته، وأمرھم بعبادة الله وحده لا
شريك له.
قال السھیلي: وكان يوحى إلیه في النوم، وكان اسمه حنظلة بن
صفوان، فَعَدوْا علیه فقتلوه، وألقوه في البئر، فغار ماؤھا، وعطشوا بعد ريھم،
ويبست أشجارھم وانقطعت ثمارھم، وخربت ديارھم، وتبدلوا بعد الأنس
بالوحشة وبعد الاجتماع بالفرقة وھلكوا عن أخرھم، وسكن في مساكنھم
الجن والوحوش، فلا يسمع ببقاعھم إلا عزيف الجن وزئیر الأسود وصوت
الضباع.
فأما ما رواه - أعني ابن جرير - عن مُحَمْد بن حمید عن سلمة عن ابن
إسحاق عن مُحَمْد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله علیه
وسلم: "إن أول الناس يدخل الجنَّة يوم القیامة العبد الأسود" وذلك أن الله
تعالى بعث نبیاً إلى أھل قرية فلم يؤمن به من أھلھا إلا ذلك العبد الأسود.
ثم إن أھل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئراً فألقوه فیھا، ثم أطبقوا
علیه بحجر أصم، قال: فكان ذلك العبد يذھب فیحتطب على ظھره ثم يأتي
بحطبه فیبیعه ويشتري به طعاماً وشراباً، ثم يأتي به إلى تلك البئر فیرفع تلك
الصخرة ويعینه الله علیھا ويدلى إلیه طعامه وشرابه ثم يردھا، كما كانت.
قال: فكان كذلك ما شاء الله أن يكون. ثم إنه ذھب يوماً يحتطب كما كان
يصنع، فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منھا، فلما أراد أن يحتملھا وجد سَنَةً،
فاضطجع ينام فضرب الله على أذنه سبع سنین نائماً، ثم إنه ھب فتمطّى،
وتحوّل لشقه الآخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنین أخرى، ثم إنه
ھب واحتمل حزمته، ولا يحسب أنه نام إلا ساعة من نھار فجاء إلى القرية
فباع حزمته، ثم اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع. ثم إنه ذھب إلى
الحفیرة إلى موضعھا الذي كانت فیه فالتمسه فلم يجده، وقد كان بدا لقومه
فیه بداء، فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه.
قال فكان نبیھم يسألھم عن ذلك الأسود ما فعل؟ فیقولون له: ما ندري
حتى قبض الله النبي علیه السلام، وھبَّ الأسود من نومته بعد ذلك، فقال
رسول الله صلى الله علیه وسلم "إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنَّة".
فإنه حديث مرسل ومثله فیه نظر. ولعل بسط قصته من كلام مُحَمْد بن
كعب القرظي والله أعلم.
ثم قد رده ابن جرير نفسه وقال: لا يجوز أن يحمل ھؤلاء على أنھم
أصحاب الرس المذكورون في القرآن، قال: لأنَّ الله أخبر عن أصحاب الرَّسِّ انه
أھلكھم، وھؤلاء قد بدا لھم فآمنوا بنبیھم. اللھم إلا أن يكون حدثت لھم
أحداث، آمنوا بالنبي بعد ھلاك آبائھم والله أعلم. ثم اختار أنھم أصحاب
الأخدود، وھو ضعیف لما تقدم ولما ذكر في قصة أصحاب الأخدود حیث توعّدوا
بالعذاب في الآخرة إن لم يتوبوا ولم يذكر ھلاكھم، وقد صرح بھلاك أصحاب
الرَّسِّ والله تعالى أعلم.
قصّة قوم يس
ومنھم أصحاب القرية أصحاب يسقال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَھُمْ مَثَلا
أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَھَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَیْھِمْ اثْنَیْنِ فَكَذَّبُوھُمَا فَعَزَّزْنَا
بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَیْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَانُ
مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَیْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَمَا عَلَیْنَا إِلا
الْبَلاغُ الْمُبِینُ، قَالُوا إِنَّا تَطَیَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَھُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَیَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا
عَذَابٌ أَلِیمٌ، قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ، وَجَاءَ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِینَ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ
أَجْراً وَھُمْ مُھْتَدُونَ، وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَیْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ
آلِھَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُھُمْ شَیْئاً وَلا يُنقِذُونِي، إِنِّي
إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِینٍ، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِي، قِیلَ ادْخُلْ الجنَّة قَالَ يَا
لَیْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِینَ، وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى
قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِینَ، إِنْ كَانَتْ إِلا صَیْحَةً وَاحِدَةً
فَإِذَا ھُمْ خَامِدُونَ}.
اشتھر عن كثیر من السلف والخلف أن ھذه القرية أنطاكیة. رواه ابن
إسحاق فیما بلغه عن ابن عبَّاس وكعب الأحبار ووھب بن منبه، وكذا روي
عن بريدة بن الخطیب وعكرمة وقتادة والزھري وغیرھم، قال ابن إسحاق
فیما بلغه عن ابن عبَّاس وكعب ووھب، إنھم قالوا: وكان لھا ملك اسمه
انطیخسبن انطیخس، وكان يعبد الأصنام.
فبعث الله إلیه ثلاثة من الرسل وھم صادق ومصدوق وشلوم فكذّبھم.
وھذا ظاھر انھم رسل من الله عز وجل. وزعم قتادة أنھم كانوا رسلاً من
المسیح. وكذا قال ابن جرير عن وھب عن بن سلیمان عن شعیب الجبائي،
كان اسم المرسلین الأولین شمعون ويوحنا واسم الثالث بولس والقرية
أنطاكیة.
وھذا القول ضعیف جداً، لأن أھل أنطاكیة لما بعث إلیھم المسیح ثلاثة
من الحواريین كانوا أول مدينة آمنت بالمسیح في ذلك الوقت.
ولھذا كانت إحدى المدن الأربع التي تكون فیھا بتاركة النصارى. وھن
أنطاكیة، والقدس، وإسكندرية، ورومیة. ثم بعدھا القسطنطینیة، ولم يھلكوا.
وأھل ھذه القرية المذكورة في القرآن اھلكوا، كما قال في آخر قصتھا، بعد
قتلھم صديق المرسلین: {إِنْ كَانَتْ إِلا صَیْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا ھُمْ خَامِدُونَ} لكن
إن كانت الرسل الثلاثة المذكورون في القرآن بعثوا إلى أھل أنطاكیة قديماً
فكذبوھم، وأھلكھم الله، ثم عمرت بعد ذلك. فلما كان في زمن المسیح آمنوا
برسله إلیھم، فلا يمنع ھذا والله أعلم.
فأما القول بأن ھذه القصة المذكورة في القرآن ھي قصة أصحاب
المسیح فضعیف لما تقدم، ولأن ظاھر سیاق القرآن يقتضي أن ھؤلاء الرسل
من عند الله.
قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَھُمْ مَثَلا} يعني لقومك يا محمد {أَصْحَابَ
الْقَرْيَةِ} يعني المدينة { إِذْ جَاءَھَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَیْھِمْ اثْنَیْنِ فَكَذَّبُوھُمَا
فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي أيدناھما بثالث في الرّسالة {فَقَالُوا إِنَّا إِلَیْكُمْ مُرْسَلُونَ}،
فردوا علیھم بأنھم بشر مثلھم، كما قالت الأمم الكافرة لرسلھم، يستبعدون
أن يبعث الله نبیاً بشرياً فأجابوھم بأن الله يعلم أنا رسله إلیكم، ولو كنا كذبنا
علیه لعاقبنا وأنتقم منا أشد الانتقام {وَمَا عَلَیْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِینُ} أي إنما
علینا أن نبلغكم ما أرسلنا به إلیكم، والله ھو الذي يھدي من يشاء ويضل من
يشاء {قَالُوا إِنَّا تَطَیَّرْنَا بِكُمْ} أي تشائمنا بما جئتمونا به {لَئِنْ لَمْ تَنتَھُوا
لَنَرْجُمَنَّكُمْ} بالمقال، وقیل بالفعال، ويؤيد الأول قوله {وَلَیَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ
أَلِیمٌ} توعدوھم بالقتل والإھانة.
{قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي مردود علیكم {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} أي بسبب أنا
ذكرناكم بالھدى ودعوناكم إلیه توعدتمونا بالقتل والإھانة {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ} أي لا تقبلون الحق ولا تريدونه.
وقوله تعالى {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} يعني لنصرة الرسل
وإظھار الإيمان بھم {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِینَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً
وَھُمْ مُھْتَدُونَ} أي يدعونكم إلى الحق المحض بلا أجرة ولا جعالة.
ثم دعاھم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونھاھم عن عبادة ما سواه
مما لا ينفع شیئاً لا في الدنیا ولا في الآخرة {إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِینٍ} أي
إن تركت عبادة الله وعبدت معه ما سواه.
ثم قال مخاطباً للرسل {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِي} قیل: فاستمعوا
مقالتي واشھدوا لي بھا عند ربكم. وقیل: معناه فاسمعوا يا قومي إيماني
برسل الله جھرة. فعند ذلك قتلوه. قیل رجماً، وقیل عصّاً، وقیل وثبوا إلیه وثبة
رجل واحد فقتلوه.
وحكى ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود قال وطئوه
بأرجلھم حتى أخرجوا قصبته.
وقد روى الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز كان اسم ھذا الرجل
"حبیب بن مرى". ثم قیل: كان نجّاراً وقیل حبَّاكاً، وقیل إسكافاً، وقیل قصّاراً،
وقیل كان يتعبد في غار ھناك. فالله أعلم.
وعن ابن عبَّاس: كان حبیب النجار قد أسرع فیه الجذام وكان كثیر
الصّدقة، فقتله قومُه. ولھذا قال تعالى: {ادْخُلْ الجنَّة} يعني لما قتله قومه
ادخله الله الجنَّة، فلما رأى فیھا من النضرة والسرور {قَالَ يَا لَیْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِینَ} يعني لیؤمنوا بما آمنت به
فیحصل لھم ما حصل لي.
قال ابن عبَّاس نصح قومه في حیاته {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِینَ} وبعد
مماته في قوله {قَالَ يَا لَیْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ
الْمُكْرَمِینَ} رواه ابن أبي حاتم، وكذلك قال قتادة لا يلقى المؤمن إلاّ ناصحاً، لا
يلقى غاشّا لما عاين ما عاين من كرامة الله {يَا لَیْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ
لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِینَ} تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من
كرامة الله، وما ھو علیه.
قال قتادة: فلا واللهِ ما عاتب الله قومه بعد قتله. {إِنْ كَانَتْ إِلا صَیْحَةً
وَاحِدَةً فَإِذَا ھُمْ خَامِدُونَ}.
وقوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا
مُنزِلِینَ} أي وما احتجنا في الانتقام منھم إلى إنزال جند من السماء علیھم.
ھذا معنى ما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود. قال
مجاھد وقتادة، وما أنزل علیھم جنداً، أي رسالة أخرى. قال ابن جرير: والأول
أولى.
قلت: وأقوى، ولھذا قال: {وَمَا كُنَّا مُنزِلِینَ} أي وما كنا نحتاج في الانتقام
إلى ھذا حین كذبوا رسلنا وقتلوا ولینا {إِنْ كَانَتْ إِلا صَیْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا ھُمْ
خَامِدُونَ}.
قال المفسرون: بعث الله إلیھم جبريل علیه السلام، فأخذ بعضادتي
الباب الذي لبلدھم ثم صاح بھم صیحة واحدة، فإذا ھم خامدون. أي قد
أخمدت أصواتھم وسكنت حركاتھم ولم يبق منھم عین تطرف.
وھذا كله مما يدل على أن ھذه القرية لیست أنطاكیة، لأن ھؤلاء أھلكوا
بتكذيبھم رسل الله إلیھم، وأھل انطاكیة آمنوا واتبعوا رسل المسیح من
الحواريین، إلیھم، فلھذا قیل: إن انطاكیة أول مدينة آمنت بالمسیح.
فأما الحديث الذي رواه الطبراني من حديث حسین الأشقر، عن سفیان
بن عُیینة عن ابن نجیح، عن مجاھد عن ابن عبَّاس عن النبي صلى الله علیه
وسلم: "السبق ثلاثة: فالسابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى
عیسى صاحبُ يس، والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب" فإنه حديث لا
يثبت؛ لأن حسیناً ھذا متروك شیعي من الغلاة، وتفرده بھذا مما يدل على
ضعفه بالكلیة. والله أعلم.
بَعْدِ مَا أَھْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} الآية.
كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من حديث عوف الأعرابي عن
أبي نضرة عن أبي سعید الخدري قال: ما أھلك الله قوماً بعذاب من السماء
أو من الأرض بعد ما أنزلت التوراة على وجه الأرض غیر القرية التي مسخوا
قردة ألم تر أن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ آتَیْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَھْلَكْنَا
الْقُرُونَ الأُولَى}.
ورفعه البزار في رواية له. والأشبه والله أعلم وقفه، فدل على أن كل أمة
أھلكت بعامة قبل موسى علیه السلام.
فمنھم:
أصحاب الرَّسِّ
قال الله تعالى في سورة الفرقان {وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَیْنَ
ذَلِكَ كَثِیراً، وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِیراً} وقال الله تعالى في صورة
ق: {كَذَّبَتْ قَبْلَھُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ، وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ،
وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِیدِ}.
وھذا السیاق والذي قبله يدل على أنھم أھلكوا ودمروا، وتبرّوا وھو
الھلاك.
وھذا يرد اختیار ابن جرير من أنھم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة
البروج، لأنّ أولئك عند بن إسحاق وجماعة كانوا بعد المسیح علیه السلام
وفیه نظر أيضاً.
وروى ابن جرير قال: قال ابن عبَّاس: أصحاب الرس أھل قرية من قرى
ثمود.
وقد ذكر الحافظ الكبیر أبو القاسم بن عساكر في أول تاريخه عند ذكر بناء
دمشق عن تاريخ أبي القاسم عبد الله بن عبد الله بن جرداد وغیره أن
أصحاب الرس كانوا بِحَضَوَّر، فبعث الله إلیھم نبیّاً يقال له: حنظلة بن صفوان،
فكذبوه وقتلوه، فسار عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح بولده من الرس،
فنزل الأحقاف، وأھلك الله أصحاب الرَّس، وانتشروا في الیمن كلھا، وفشوا
مع ذلك في الأرض كلھا، حتى نزل جیرون بن سعد بن عاد بن عوص بن ارم
بن سام بن نوح دمشق، وبنى مدينتھا، وسماھا جیرون، وھي ارم ذات
العماد، ولیس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منھا بدمشق، فبعث الله ھود
بن عبد الله بن رباح بن خالد بن الحلود بن عاد إلى عاد، يعني أولاد عاد
بالأحقاف، فكذبوه فأھلكم الله عز وجل.
فھذا يقتضي أن أصحاب الرس قبل عاد بدھور متطاولة فالله أعلم.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي عاصم عن أبیه عن شبیب بن
بشر عن عكرمة عن ابن عبَّاس قال: الرس بئر بأذربیجان. وقال الثوري عن
أبي بكر عن عكرمة قال: الرس بئر رسّوا فیھا نبیَّھم، أي دفنوه فیھا.
قال ابن جُرَيْج قال عكرمة: أصحاب الرَّسِّ بفلج، وھم أصحاب يس. وقال
قتادة: فلج من قرى الیمامة.
قلت: فإن كانوا أصحاب ياسین كما زعمه عكرمة فقد أھلكوا بعامة، قال
الله تعالى في قصتھم: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَیْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا ھُمْ خَامِدُونَ} وستأتي
قصتھم بعد ھؤلاء.
وإن كانوا غیرھم وھو الظاھر فقد اھلكوا أيضاً وتبرّوا. وعلى كل تقدير
فینافي ما ذكره ابن جرير.
وقد ذكر أبو بكر مُحَمْد بن الحسن النقاش أن أصحاب الرس كانت لھم بئر
ترويھم وتكفي أرضھم جمیعھا، وكان لھم ملك عادل حسن السیرة، فلما
مات وجدوا علیه وجداً عظیماً، فلما كان بعد أيام تصوّر لھم الشّیْطان في
صورته، وقال: إني لم أمت، ولكن تغیبت عنكم حتى أرى صنیعكم، ففرحوا
أشد الفرح وأمر بضرب حجاب بینھم وبینه، وأخبرھم أنه لا يموت أبداً، فصدق
به أكثرھم وافتتنوا به وعبدوه. فبعث الله فیھم نبیاً فأخبرھم أن ھذا شیطان
يخاطبھم من وراء الحجاب، ونھاھم عن عبادته، وأمرھم بعبادة الله وحده لا
شريك له.
قال السھیلي: وكان يوحى إلیه في النوم، وكان اسمه حنظلة بن
صفوان، فَعَدوْا علیه فقتلوه، وألقوه في البئر، فغار ماؤھا، وعطشوا بعد ريھم،
ويبست أشجارھم وانقطعت ثمارھم، وخربت ديارھم، وتبدلوا بعد الأنس
بالوحشة وبعد الاجتماع بالفرقة وھلكوا عن أخرھم، وسكن في مساكنھم
الجن والوحوش، فلا يسمع ببقاعھم إلا عزيف الجن وزئیر الأسود وصوت
الضباع.
فأما ما رواه - أعني ابن جرير - عن مُحَمْد بن حمید عن سلمة عن ابن
إسحاق عن مُحَمْد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله علیه
وسلم: "إن أول الناس يدخل الجنَّة يوم القیامة العبد الأسود" وذلك أن الله
تعالى بعث نبیاً إلى أھل قرية فلم يؤمن به من أھلھا إلا ذلك العبد الأسود.
ثم إن أھل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئراً فألقوه فیھا، ثم أطبقوا
علیه بحجر أصم، قال: فكان ذلك العبد يذھب فیحتطب على ظھره ثم يأتي
بحطبه فیبیعه ويشتري به طعاماً وشراباً، ثم يأتي به إلى تلك البئر فیرفع تلك
الصخرة ويعینه الله علیھا ويدلى إلیه طعامه وشرابه ثم يردھا، كما كانت.
قال: فكان كذلك ما شاء الله أن يكون. ثم إنه ذھب يوماً يحتطب كما كان
يصنع، فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منھا، فلما أراد أن يحتملھا وجد سَنَةً،
فاضطجع ينام فضرب الله على أذنه سبع سنین نائماً، ثم إنه ھب فتمطّى،
وتحوّل لشقه الآخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنین أخرى، ثم إنه
ھب واحتمل حزمته، ولا يحسب أنه نام إلا ساعة من نھار فجاء إلى القرية
فباع حزمته، ثم اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع. ثم إنه ذھب إلى
الحفیرة إلى موضعھا الذي كانت فیه فالتمسه فلم يجده، وقد كان بدا لقومه
فیه بداء، فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه.
قال فكان نبیھم يسألھم عن ذلك الأسود ما فعل؟ فیقولون له: ما ندري
حتى قبض الله النبي علیه السلام، وھبَّ الأسود من نومته بعد ذلك، فقال
رسول الله صلى الله علیه وسلم "إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنَّة".
فإنه حديث مرسل ومثله فیه نظر. ولعل بسط قصته من كلام مُحَمْد بن
كعب القرظي والله أعلم.
ثم قد رده ابن جرير نفسه وقال: لا يجوز أن يحمل ھؤلاء على أنھم
أصحاب الرس المذكورون في القرآن، قال: لأنَّ الله أخبر عن أصحاب الرَّسِّ انه
أھلكھم، وھؤلاء قد بدا لھم فآمنوا بنبیھم. اللھم إلا أن يكون حدثت لھم
أحداث، آمنوا بالنبي بعد ھلاك آبائھم والله أعلم. ثم اختار أنھم أصحاب
الأخدود، وھو ضعیف لما تقدم ولما ذكر في قصة أصحاب الأخدود حیث توعّدوا
بالعذاب في الآخرة إن لم يتوبوا ولم يذكر ھلاكھم، وقد صرح بھلاك أصحاب
الرَّسِّ والله تعالى أعلم.
قصّة قوم يس
ومنھم أصحاب القرية أصحاب يسقال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَھُمْ مَثَلا
أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَھَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَیْھِمْ اثْنَیْنِ فَكَذَّبُوھُمَا فَعَزَّزْنَا
بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَیْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَانُ
مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَیْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَمَا عَلَیْنَا إِلا
الْبَلاغُ الْمُبِینُ، قَالُوا إِنَّا تَطَیَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَھُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَیَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا
عَذَابٌ أَلِیمٌ، قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ، وَجَاءَ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِینَ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ
أَجْراً وَھُمْ مُھْتَدُونَ، وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَیْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ
آلِھَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُھُمْ شَیْئاً وَلا يُنقِذُونِي، إِنِّي
إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِینٍ، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِي، قِیلَ ادْخُلْ الجنَّة قَالَ يَا
لَیْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِینَ، وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى
قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِینَ، إِنْ كَانَتْ إِلا صَیْحَةً وَاحِدَةً
فَإِذَا ھُمْ خَامِدُونَ}.
اشتھر عن كثیر من السلف والخلف أن ھذه القرية أنطاكیة. رواه ابن
إسحاق فیما بلغه عن ابن عبَّاس وكعب الأحبار ووھب بن منبه، وكذا روي
عن بريدة بن الخطیب وعكرمة وقتادة والزھري وغیرھم، قال ابن إسحاق
فیما بلغه عن ابن عبَّاس وكعب ووھب، إنھم قالوا: وكان لھا ملك اسمه
انطیخسبن انطیخس، وكان يعبد الأصنام.
فبعث الله إلیه ثلاثة من الرسل وھم صادق ومصدوق وشلوم فكذّبھم.
وھذا ظاھر انھم رسل من الله عز وجل. وزعم قتادة أنھم كانوا رسلاً من
المسیح. وكذا قال ابن جرير عن وھب عن بن سلیمان عن شعیب الجبائي،
كان اسم المرسلین الأولین شمعون ويوحنا واسم الثالث بولس والقرية
أنطاكیة.
وھذا القول ضعیف جداً، لأن أھل أنطاكیة لما بعث إلیھم المسیح ثلاثة
من الحواريین كانوا أول مدينة آمنت بالمسیح في ذلك الوقت.
ولھذا كانت إحدى المدن الأربع التي تكون فیھا بتاركة النصارى. وھن
أنطاكیة، والقدس، وإسكندرية، ورومیة. ثم بعدھا القسطنطینیة، ولم يھلكوا.
وأھل ھذه القرية المذكورة في القرآن اھلكوا، كما قال في آخر قصتھا، بعد
قتلھم صديق المرسلین: {إِنْ كَانَتْ إِلا صَیْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا ھُمْ خَامِدُونَ} لكن
إن كانت الرسل الثلاثة المذكورون في القرآن بعثوا إلى أھل أنطاكیة قديماً
فكذبوھم، وأھلكھم الله، ثم عمرت بعد ذلك. فلما كان في زمن المسیح آمنوا
برسله إلیھم، فلا يمنع ھذا والله أعلم.
فأما القول بأن ھذه القصة المذكورة في القرآن ھي قصة أصحاب
المسیح فضعیف لما تقدم، ولأن ظاھر سیاق القرآن يقتضي أن ھؤلاء الرسل
من عند الله.
قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَھُمْ مَثَلا} يعني لقومك يا محمد {أَصْحَابَ
الْقَرْيَةِ} يعني المدينة { إِذْ جَاءَھَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَیْھِمْ اثْنَیْنِ فَكَذَّبُوھُمَا
فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي أيدناھما بثالث في الرّسالة {فَقَالُوا إِنَّا إِلَیْكُمْ مُرْسَلُونَ}،
فردوا علیھم بأنھم بشر مثلھم، كما قالت الأمم الكافرة لرسلھم، يستبعدون
أن يبعث الله نبیاً بشرياً فأجابوھم بأن الله يعلم أنا رسله إلیكم، ولو كنا كذبنا
علیه لعاقبنا وأنتقم منا أشد الانتقام {وَمَا عَلَیْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِینُ} أي إنما
علینا أن نبلغكم ما أرسلنا به إلیكم، والله ھو الذي يھدي من يشاء ويضل من
يشاء {قَالُوا إِنَّا تَطَیَّرْنَا بِكُمْ} أي تشائمنا بما جئتمونا به {لَئِنْ لَمْ تَنتَھُوا
لَنَرْجُمَنَّكُمْ} بالمقال، وقیل بالفعال، ويؤيد الأول قوله {وَلَیَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ
أَلِیمٌ} توعدوھم بالقتل والإھانة.
{قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي مردود علیكم {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} أي بسبب أنا
ذكرناكم بالھدى ودعوناكم إلیه توعدتمونا بالقتل والإھانة {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ} أي لا تقبلون الحق ولا تريدونه.
وقوله تعالى {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} يعني لنصرة الرسل
وإظھار الإيمان بھم {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِینَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً
وَھُمْ مُھْتَدُونَ} أي يدعونكم إلى الحق المحض بلا أجرة ولا جعالة.
ثم دعاھم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونھاھم عن عبادة ما سواه
مما لا ينفع شیئاً لا في الدنیا ولا في الآخرة {إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِینٍ} أي
إن تركت عبادة الله وعبدت معه ما سواه.
ثم قال مخاطباً للرسل {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِي} قیل: فاستمعوا
مقالتي واشھدوا لي بھا عند ربكم. وقیل: معناه فاسمعوا يا قومي إيماني
برسل الله جھرة. فعند ذلك قتلوه. قیل رجماً، وقیل عصّاً، وقیل وثبوا إلیه وثبة
رجل واحد فقتلوه.
وحكى ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود قال وطئوه
بأرجلھم حتى أخرجوا قصبته.
وقد روى الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز كان اسم ھذا الرجل
"حبیب بن مرى". ثم قیل: كان نجّاراً وقیل حبَّاكاً، وقیل إسكافاً، وقیل قصّاراً،
وقیل كان يتعبد في غار ھناك. فالله أعلم.
وعن ابن عبَّاس: كان حبیب النجار قد أسرع فیه الجذام وكان كثیر
الصّدقة، فقتله قومُه. ولھذا قال تعالى: {ادْخُلْ الجنَّة} يعني لما قتله قومه
ادخله الله الجنَّة، فلما رأى فیھا من النضرة والسرور {قَالَ يَا لَیْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِینَ} يعني لیؤمنوا بما آمنت به
فیحصل لھم ما حصل لي.
قال ابن عبَّاس نصح قومه في حیاته {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِینَ} وبعد
مماته في قوله {قَالَ يَا لَیْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ
الْمُكْرَمِینَ} رواه ابن أبي حاتم، وكذلك قال قتادة لا يلقى المؤمن إلاّ ناصحاً، لا
يلقى غاشّا لما عاين ما عاين من كرامة الله {يَا لَیْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ
لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِینَ} تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من
كرامة الله، وما ھو علیه.
قال قتادة: فلا واللهِ ما عاتب الله قومه بعد قتله. {إِنْ كَانَتْ إِلا صَیْحَةً
وَاحِدَةً فَإِذَا ھُمْ خَامِدُونَ}.
وقوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا
مُنزِلِینَ} أي وما احتجنا في الانتقام منھم إلى إنزال جند من السماء علیھم.
ھذا معنى ما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود. قال
مجاھد وقتادة، وما أنزل علیھم جنداً، أي رسالة أخرى. قال ابن جرير: والأول
أولى.
قلت: وأقوى، ولھذا قال: {وَمَا كُنَّا مُنزِلِینَ} أي وما كنا نحتاج في الانتقام
إلى ھذا حین كذبوا رسلنا وقتلوا ولینا {إِنْ كَانَتْ إِلا صَیْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا ھُمْ
خَامِدُونَ}.
قال المفسرون: بعث الله إلیھم جبريل علیه السلام، فأخذ بعضادتي
الباب الذي لبلدھم ثم صاح بھم صیحة واحدة، فإذا ھم خامدون. أي قد
أخمدت أصواتھم وسكنت حركاتھم ولم يبق منھم عین تطرف.
وھذا كله مما يدل على أن ھذه القرية لیست أنطاكیة، لأن ھؤلاء أھلكوا
بتكذيبھم رسل الله إلیھم، وأھل انطاكیة آمنوا واتبعوا رسل المسیح من
الحواريین، إلیھم، فلھذا قیل: إن انطاكیة أول مدينة آمنت بالمسیح.
فأما الحديث الذي رواه الطبراني من حديث حسین الأشقر، عن سفیان
بن عُیینة عن ابن نجیح، عن مجاھد عن ابن عبَّاس عن النبي صلى الله علیه
وسلم: "السبق ثلاثة: فالسابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى
عیسى صاحبُ يس، والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب" فإنه حديث لا
يثبت؛ لأن حسیناً ھذا متروك شیعي من الغلاة، وتفرده بھذا مما يدل على
ضعفه بالكلیة. والله أعلم.
للمشاركة انت بحاجه الى تسجيل الدخول او التسجيل
يجب ان تعرف نفسك بتسجيل الدخول او بالاشتراك معنا للمشاركة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى